الفصل القمري – الجزء الأوّل / يحيى القوزي
|يحيى القوزي |
الفصل القمري – الجزء الأوّل Mental Furniture
يستيقظ حيّ النّجا على صوت يغرق الهواء من مكبّر الصوت الجديد في سيارة فؤاد الكندرجي (ابو دينا) الصدئة: “الفرق ما بينك وبيني انك حبيب قلبي وانت ناسيني”.
تشتاظ دينا غضباً من صاحبها اسطفان (تينو) الذي قرّر إيلاج قضيبه في راديو والدها.
– “ما فيك تحطو وين ما كان”.
تينو يعاني من بارافيليا الفتيشية/الانبهار الجنسي مع الأشياء غير الحيّة، ويشكّل الراديو مصدراً كبيراً للإثارة له.
لا تزال سيرة أخاها الأصغر تغربل بحكايات أهل الحي. حكاية طبيب مهووس بالتطريز وحياكة الصوف قَتَلَه شريكه أثناء ركوبه.
تحاول دينا للمرة المئة والخمسين البحث عن طريقه لفّ الشّال حول الرقبة عبر اليوتيوب وقد كدّست الشالات في صناديق البريد القادمة من شرق آسيا. دينا صبيّة ثلاثينيّة تحضّر لرسالتها في دكتوراه علم النفس قسم أمراض الشهيّة. مرعب كيف جعلتها تلك الرسالة مهووسة بأشكال مرضاها لدرجة انها وضعت استمارة أسئلة خاصة بأمراض الشهيّة تسألها لكلّ مريض. بدأت بالتحضير للموضوع من سنتين عندما كانت مصرّة على إختيار موضوع القذف المبكّرعند الرجال المتقدمين بالسن لما عاناه والدها من هذه المشكلة. ثمّ لاقت أنه يجب أن تبحث عن السبب الذي جعل أخاها مثليا وهي وغيرها لا. وبعد وفاة أخيها تراءى لها البحث عن مشكلة داهمتها هي لفترة طويلة :التناول المفرط للطعام “الصحي” ومن ثم الإنفجار نحو الحلويات.
دينا تلفّ شالها “كيف ما كان” كما تفعل كل مرة بعد ان تمل من فيديوهات اليوتيوب التي لم تتعلم منها سوى “كيفية ثني أكمام القميص بطريقة مرتبة” وتتدركب على درج بيتهم المهترئ لتركب باستعجال سيارة ابيها مع تينو وتصرخ بوجهه “أنقبر عجّل بدي لحّق موعدي مع بولا”.
بولا المستشارة النفسيّة لدينا و للعديد من المعالجين\ات النفسيين\ات في بيروت الكبرى. “دينا تأخَّرِت 10 دقايق كل مرّة بوصل وبتخسملي ياهن من جلستي”.
تركض وراء السيارة الخنفساء إمرأة بالنقاب الأسوَد حاملة محفظة سهت من شنطة دينا “يا لها من كلامسي غيرل! لو طارقة بطحة ياغر ما كانت حتكون هلقد فاصلة”.
سندس كانت ولا تزال متفاجئة كيف توقّفت دينا عن التكلّم معها فجأة. توقفت عن الحديث معها فجأة في ليلة من ليالي مقهى زكريا. كان هذا بعد فترة طويلة من نق دينا عليها بالتوقف عن العيش بإزدواجيّة متناقضة التي برأيها “مإذيّة وما بتشوفي عواقبها هلق بس بعدين”. سندس تعلم أن دينا متشبّثة بما يعاني منه مرضاها، هي لا ترى إلاّ “العقد” في عملها، “شو بدك فيي يا إختي أنا مرتاحة هيك، ليش بدك تكبليني”. آخر مرّة جاوبتها دينا قالت لها “طول عمرك جوابك على راس لسانك، اصطفلي سندس، قبعي شوكك بإيدك”.
سندس، سندس، رابوص سندس، دولة سندس، الحكم على سندس، واجبات سندس، سندس التي عينيها تحمل بكاء وضحك نساء كثر. سندس التي تجلس وحيدة، التي تخاف من نفسها وتهوّرها، سندس التي تستيقظ بأحياء صغيرة، كبيرة، وأرصفة منتشية بكل ما خلّفه أباها من دين وسلطة. ” سندس.. سندس.. نازل عالملحمة إنتي اليوم نايمة بالمستشفى؟” تجاوب “أي، وبكرا كمان دوامي بالليل”.
سندس خائفة، سندس متحمّسة، سندس تتابع خطوات زوجها إلى الملحمة حيث تمشي خلفه كما أمرها أن تطيعه، سندس خمسينيّة، “مطيعة كان لازم يكون إسمك” يردد زوجها كلما سمحت له باغتصابها ليلاً وهي قد تعوّدت على كتم دموعها المقدّسة بعد كلّ مرّة، وتسرع لكي تغتسل بعد كلّ جريمة شرّعها العرف. وأباها.
سندس، سندس أباها. سندس الجميع.
سندس لا تذهب الى المستشفى تلك الليلة، كباقي الليالي التي قضتها في القهوة حيث عملها يعيل اقساط ابنها زياد في الجامعة اللبنانية الأميركية لدراسة فن تصميم الأزياء.
“زياد ما طالع لبيّو أبدا” يقول الأهل والجيران والأصحاب وزبائن الملحمة وجابي الكهرباء ومعلمة زياد المتحرشة في المدرسة التكميلية التي صاحبت وديع (ابو زياد) قبل أن يقع في غرام سندس ويتزوجها.
زياد يهوى الاغاني الكلاسيكية واكل البامية والألوان الداكنة والزهور ويهوى المكوث في المنزل. ليس عنده أي مانع من البقاء في المنزل لتصميم فستان سهرة دون ادنى مردود مالي لإمرأة التقاها منذ ساعة على الانستغرام. بعكس أخيه “الفحل” ابو زياد “يلي ما مخلّى وحدة من شرّو وما مخلّى عضلة ما منفّخها”.
تضطر سندس اليوم الذهاب للسوق الشعبي في الناحية الأخرى من المدينة الصدئة لإحضار بعض أغراض المنزل بالإجمال، وخصوصاً للالتقاء بتاجر “البضاعة”. في حيّ صبرا سترى جوَر الماء الضخمة فوقها مليون شريط كهربائي يجمعهم صدرية قديمة مبللة بالمطر وعلى عمود ما نصب علم الجيش وشرائط أخرى تتدلّى في معجزة انعزال التيّار الكهربائي. على جوانبك أواني حديدية وفخار بسعر زاهد وأقراص دي في دي متناسخة لأفلام من هوليوود وبيجامات قطن و قبعات صوفية وغيارات بيضاء مريحة ولحم متدلي منه المشوي الذي يعبق كل الهواء ومنه اللحم الذي لا يحبه مرتديه.
يتوجّه زياد لزيارة قبر جدّته زهرة في إجازة الميلاد التي تنشيبالسعادة رغم كل ما يمر به من ضغوطات عائلية خانقة تتركز حول منعه من الإختلاط مع الرجال غير النمطيين.
في طريقه نحو الجبّانة تهاجمه صور موت جدّته المروع من سنتين. زهرة كانت المعبد الروحي لزياد، لطالما قضوا الوقت سوياً يحيكون سترات الصوف الكروشية لأوعية النباتات حول المنزل وأكواب الشاي وزجاجات النبيذ. هجمة الأحاديث عن إقامة جدته في باريس ومثابرتها على الإنفتاح بكل الطرق على جميع المدارس والمناهج ومواظبتها على التعبير عن هويتها الجندرية بحرّية مذهب العري وجميع باقي المذاهب الجنسيّة الأخرى.
زهرة التي حملت ثدييها تحت برج إيفل، زهرة التي نعتت بالعاهرة التي جلست على برج ايفل. زهرة التي، بأحمر الشفاه وعقد الورد الجوري أدخلت حزام القضيب في دبر زوجها وعشيقته. زهرة التي مشت بمسيرة الفخر في كانون الأوّل بمايو قزحي. زهرة التي أحبّت زهر الليمون ونثرته موسمياً على سطح بيتها في شارع في باريس. التي إعتنقت القطط واللذة ديناً. زهرة رحلت. وتركت العديد مثل زياد، يحلمون بحياةٍ مثل حياة زهرة.
الأموات يلتقطون الوايفاي من راوتر الجبانة، تسأل إحداهنّ الناطور عن الكلمة السرية فيقول لها “الحياه_حلوه!” ..لم تنجح بإدخاله على جهازها،عادت، سألته، اجابها “نسيتي علامة التعجب”. عادت الى قبرها
كان قرار وضع راوتر في جبّانة الضيعة إتخذته إدارة الدفن بعد فشلهم في دفن أصوات المطالبات بالوايفاي للتواصل مع ذويهم في الحياة الدنيا. والحيوات الأخرى.
فوجئت إحدى الموتى بما رأته على الفايسبوك من مجاملات مصطنعة على صفحتها بعدما نشروا خبر وفاتها. ستذهب لطبيبها النفسي في آخر الجبّانة بعدما تنتهي من إحتساء الإسبرسو مع جاراتها.
لم تعتني بنفسها جيدا “كان همها كلام الناس وإنو ما حدا يحكي عليها بآخرتها” تتكلم إحدى زائري قبر إلهام عنها وهي الأخرى مع صديقاتها يحتسين التيكيلا بفساتين قصيرة سوداء وأحمر الشفتين
لم تكن زهرة كثيرة الكلام. لكنها هربت من الجبانة صباح السبت مخالفة بذلك قوانين كثيرة أهمها عدم الظهور أمام الأحياء بعد الموت. تبان تجاعيد زهرة على جسدها وتترهل حلمتيها اللتان كان يحلم بهما معظم الباريسيين والباريسيات والرجال في المقبرة بعدما علموا بقدومها. تخرج اليوم زهرة بعد موتها من الجبّانة لإستكمال رحلة البحث عن عريس تقضي معه ما تبقى من موتها.
خرجت إلهام من عند طبيبها النفسي في آخر الجبانة ومعها تشخيص إكتئاب ما بعد الموت بحسب دليل الأطباء النفسي للأموات 5. تريد إذنا من مدير الجبّانة لزرع أدويتها أمام قبرها. المرّة القادمة التي سيزورها أولادها لن يحتاجو لدفع الكثير مقابل “المخمخة” ، ستعتني بهم أمهم و تزرع الأدوية لصديقاتها الأموات للأحياء.
سوزان جديدة في الجبّانة، وصلت البارحة ظهراً وأمضت ليلة وحيدة. لم تكن تعلم بوجود باب سري داخل قبرها يمكّنها من الخروج ليلاً والإستمتاع بالحياة الليليّة على صوت المغنّية زينات التي يشبه صوتها كثيرا أم كلثوم. سعاد ،المعرّفة المعتمدة من قبل الجبّانة ،تخرج من قبرها عند الغروب وتعرّف الأموات الجدد على جميع النشاطات وأسرار الموت الجميلة في مسيرة طويلة تبدأ من أرض المقبرة وتنتهي في الطابق الثالث تحت الأرض حيث يركن الأموات دراجاتهم الهوائيّة المزيّنة بالورود.
غدا اول إحتفاليّة للموتى الجدد الذين انضموا إلى الجبّانة منذ ستة أشهر. سلمى وإلهام ذهبنَ إلى الخيّاطة وداد غرب الجبّانة لإستلام فساتينهنّ. عثمان وصديقه تمّام اللذين قضيا إثر مشكل الخندق الغميق يكويان البدلات بعد التمرين على الرقصة الإفتتاحية في ساحة المقبرة الضخمة – بايزمنت 3. الزينة عُلِّقت والكورس يتمرّن ؛أصوات غريبة يسمعها زوّار المقبرة.
يستيقظ الأموات اليوم باكراً ولو أنه يوم عطلة عند الأحياء! يشربون القهوة في مقهى الجبّانة ويزرعون الورود على قبورهم. اليوم الكل مستعدّ لاحتفالية إستقبال الموتى الجدد في خريف 2017. فردوس توزع الواقي الذكري في كشك الصحّة الجنسيّة للأموات (كالعادة). نهاد تتأكد من الإنارة، نهاد يمسح الأرض و الكراسي البلاستيكيّة. الكل متحمس لما سوف يحدث الليلة.
إحتفال البارحة كان مذهلاً. الجميع كان فرحا و الكل رقصوا. لا أحد من الأموات بدا حزيناً. زهرة بثوبها الزاهي رقصت مع جوليان الذي بدا متأثرا بعدما التقيا في سفرته العابرة للجبانات، رقصتهما الأولى بعد الوفاة. الكل تأثّر لحبّ لم ينساه الزمن.