الجنازات/ راجي بطحيش
| من رواية يولا وأخواته – دار المتوسط- 2017 |
استيقظ إميل من النوم لا يتذكر سوى حلم المدرسة وحلم سوسن ويشده نحو السرير انتصاب مؤلم لا يمت للحلمين بأية صلة، فلا هو يحلم عن تجربة “Gang bang” مثيرة يتناوب فيها رجال أشداء وأغبياء في ذات الوقت على ولوجه في سجن أو في ورشة لتصليح السيارات ، واحد تلو الآخر بهدوء وطبيعية وتناغم شديدين لا يفضح لبرهة جهل هؤلاء الرجال والفجوة القائمة أو المنطقية بين جاذبيتهم البدنية وجهلهم . ولا هو يحلم بمغامرة عارية ومثيرة على شاطيء البحر الجنوبي لحيفا ، حيث يختلط الرمل بالعرق بالمني بالشمس بروائح كريهة تصبح غير كريهة عندما تحتدم الشهوة ويحتدم العطش والشعور بالقرف والرغبة الجامحة في ذات الوقت والمكان. فإميل يقرف من الرمل والروائح الكريهة البشرية على تنوعها، ولكن الأمر يختلف عندا يكون كل ذلك يحدث بين أشخاص عراة ..فالفرق بين لباس بحري لا يغطي كثيرا وبين العري التام في أحضان البحر أو بقربه يغير معنى القرف وسياقه.
حلم المدرسة..
حلم سوسن..
وانتصاب مؤلم
من مات اليوم إذا؟
من مات من “جماعتنا”؟
يمارس إميل كل يوم في إجازة المدرسة الصيفية التي يعلم فيها هوايته المفضلة وذلك رغما عن الحر المزعج الذي يسود الشارع وخاصة في شهر آب ، فأحيانا تكون المدينة في ساعات ما قبل الظهر أو في ساعات الغروب أشبه بمكان ألقيت عليه للتو قنبلة نووية نثرت غبارا أصفر يمتص ما تبقى من أوكسجين ..ذلك إن وجد أصلا..
كان أميل يؤجل حمامه كالأطفال، متحججا بينه وبين نفسه أنه أصلا لن يشم أحدا جسده وأن الصدف الإيروتيكية لا تحدث أبدا في هذا المكان وهي لا تتواجد ضمن قاموسه أصلا ، ففي أحلامه الرطبة والمرعبة والوردية في آن سوف يتعرض أحد في هذا اليوم الحار لجسده العاري لعانته وأيره وطيزه وشعر صدره الكث…يأخذ الحمام معنى عندما يكون الجسد حاضرا أصلا ولكن تلك الإجازة التي يحتفل فيها إميل باختفاءه..اختفاء جسده ولو مؤقتا..أو إلى الأبد ..وتلك ليست بكائية تنم عن تعاسة شديدة ، بل هي حسابات واقعية ومادية..تقول..لا يوجد اليوم أي احتمال واحد في المليون أن أضطر لخلع ملابسي والداخلية منها خصيصا أمام أحد بهدف انتاج متبادل للمتعة ..لذا أرغب بترك جسدي على عبقه..منتن من العرق وبول القطط..أما في حال اضطراره لخلع ملابسه في غرفة طواريء مثلا جراء حصول كارثة مثلا، أو ذبحة صدرية أو انفجار دماغي أو دهس من قبل باص فارغ يتجول في الحر لوحده..فلندع الطاقم يستمتع بالرائحة ..رائحة أولاد الذوات ..ولنذهب بالعجز الإختياري حتى آخره ..انتهت حجج تأجيل الحمام إذا..بواسطة بعض التبريرات البلاغية التي تنتهي كالعادة في مستشفى أبيض وأخضر بتكييف يحمل رائحة خاصة هي مزيج من رائحة كحل الإيثانول ورائحة الاستسلام للآخرين جسديا..إفعلوا ما تريدون بي ..أريد ان يلامسني أحدا… اي أحد..
أريد أن أغفوا قليلا أن أفقد السيطرة على غفوتي وأن يلمسني أحد، وأقول له بداخلي إفعل بي ما تشاء وما يحلو لك ، إنه الشعور ببرودة التكييف في تلك الأماكن التي يستسلم فيها المرء لأشخاص غرباء بين جدران بيضاء فيغفو قليلا ربما لثواني قبل أن تستقر كفة يد على أحد مسطحات جسده الهشة ثم يغفو مجددا ربما لبرهات اطول قليلا بعد أن يأخذ أحدهم عينة دم تحمل كل اسراره المتخيلة ، أو يقيس له الحرارة أو الضغط أو تسارع دقات الفلب ..أو ربما ينفذ فيه أمرا أكثر غزوية وإيلاما\ لذة.
يتناول أميل الورقة الملقاة على المائدة السوداء المنخفضة المغبرة ، والتي كتب عليها خواطره قبل أسبوع حول هذه الفكرة الملتبسة ..فكرة أن تنتقم من عشاقك الخائنين والأنانيين …بسقوطك الجسدي و استسلامك لأيد ممرضات وتمرجية ينبشون بجسدك بدافع مهني حتى لو كانوا يشتهونك .
“
ربما إن أنا متّ
ستبكي قليلا لوحدك
بين إجازة تزلج
وحفلة نبيذ
لتسقط دموعك
على مائدتك المعقمة المتحققة
ولا تجد أغبرة تراقصها
تبكي قليلا..
وتتذكرني قليلا
بجرعة مسموح بها ولا تضر
تتذكر عدد الشعيرات على هشاشة صدري
وسرعة انزلاق عرقك
وسوائلك الأخرى نحو سرتي
وكم نملة كانت تتبختر احتفاء بك
على فخذي الشهي..
***
ربما إن أنا متّ
ستسترجع ماضي يدك البيضاء المرتعشة الخائفة
التي أصبحت قاسية خشبية
وهي تضغط على بطني دون سبب
وكأن بطني كان يجمل في طراوته
كل رقة وعذوبة هذا الكون
ليسرقها معه
إن أنا متّ”
خرج إميل كعادته كل صباح إلى الشارع الرئيسي في ديانا ليستعرض أوراق الموتى وتحديدا في عامودين رئيسيين واستراتجيين لهذا الغرض لا تنسى عليهما الأوراق القديمة ليأكلها غبار الشارع ، العامود الاول هو ما يعرف بمفترق ديانا او التقاطع بين شارع بولس السادس وشارع الوادي الجواني أما العامود “الطازج” الثاني أو بتعبير أصح مجمع العواميد فهي تلك التي تستقر عند تقاطع بولس ونزلة ما بات يعرف ببندكتوس ، ففي عواميد أخرى لا زال تنشر اعلانات نعي لمن نشرت اعلانات قداديس الأربعين لهم منذ يوم أو يومين، في مغالطة زمنية قد تصدم الزائر صدفة ، خاصة وان الفترة الزمنية بين نشر اعلان التعي والأربعين آخذة بالتقلص، دون سبب مقنع دينيا على الأقل، فلا الأربعين يوما هي أربعين يوما بالضبط ولا ذكرى نصف السنة والسنة تتقيد بتاريخ الوفاة الأصلي كما يجب، وكأن عائلات المتوفين ترغب بتسريع الاحتفاء بالموتى كي تتفرغ للآتي في عالم الأحياء أو أولئك الموشكون على المغادرة، بسبب السرطان مثلا.
موتى اليوم:
تيلدا سامي عواد
اسعد جميل زهرة
سماء رفائيل عيسى
أمين سهيل شهلا
في جنازة اليوم كما هو الأمر في جنازات كل يوم تتوقف سيارات المشيعن فجأة على طرفي الطريق، يهبط إميل من بيتهم سيرا على الأقدام كي لا يضطر للبحث عن موقف ، وبجسده المائل للسمنة ورائحة عطره القوية يزج بنفسه بين الرجال وعتمد شدة الزوحمة في الجنازة على من تبقى من عائلة الميت، وأصدقائه وأنسبائه والناشطين من طائفته الذين يقضون يومهم بأكمله في قضاء الواجبات فإما في جنازة أو تأبين أو أربعين أو نصف سنة أو سنة أو زواج..وكأن الناس في هذه المدينة لا تفعل شيئا سوى الموت والزواج..ولكن اميل لاحظ أن كمية الأشخاص في الجنازات كانت تنخفض بالتدريج حتى ولو كانت الميتة أو الميت من أكثر الأشخاص شعبية في محيطهم الواسع والأوسع والأوسع…كما لم تعد الجنازات تبتلع ضغط الهواء في الحيز وتشكل الحدث الأساسي في الشارع الذي تسير، بل أصبحت آفة كأي آفة تشكل سوية وبالمحصل ما يحدث في الحيز العام أو الشارع أو هذا الفضاء الذي ينتظر المارون منه انقضاء الآفات كلها ..ويحل ..الملل..ربما؟ ولكن الآفات لا تنقضي بل تتقاطع السرديات وتتعامد وتتوازي غير آبهة إحداها بالأخرى..أما مرور جنازة خائبة كل يوم من مسار هو الأشد اكتظاظا وتلوثا وضجيجا فلا يوازيه شيئا في غيابه وشفافيته ..بحيث يصبح الرجال من رواد الجنازات تلك أشخاص غير مرئيين من يوم لآخر ..يزداد اختفائهم من جنازة لجنازة بحيث يمكنهم بسهولة المرور عبر رادارات الذاكرة الجارحة دون ان تلتقتطهم هوائياته…
يرتدي الجميع قمصان ناعمة بيضاء كمراييل أطباء الأسنان القصيرة وبناطيل من قماش السيرولين الرسمي السوداء، أو الكحلية الغامقة على الغالب والتي تتناقلها الأجيال من الجد للإبن للحفيد وهنالك من المتمردين المسيسين قليلا من يرتدون بناطسل فاتحة قليلا مع قميص أزرق فاتح مثلا..دلالة على القليل من النزق كما وتدخل جميع هذه القمصان في البناطيل وتكون الفضيحة عندما يكون الرجل قد جاوز الستين وتدلت خصيتاه من جانب واحد من ساق البنطلون على حساب الساق الثانية، ولكنها في الحقيقة ليست فضيحة، فمن يأبه بخصيتي رجل مختف، والمهم هو ان لا بناطيل جينز في جنازات هذه المدينة ولا حتى أحذية رياضية حداثية التصميم يمكن احتذائها في كل مكان، فالأحذية سوداء غالبا وبنية غامقة أحيانا. ومغبرة بالطبع..كان هؤلاء الرجال على كافة أجيالهم يضعون نظارات سميكة ويبدون وكأنهم ينهضون من النوم فقط لحضور الجنازات حيث يعودون من بعدها للرقاد الطويل حتى المرة التالية. فكان إميل يخاف حتى أن يسألهم عن اخبارهم كي لا نقل اغوائهم لمعاشرته في إحدى الزوايا.
لم يكن إميل يزج بنفسه بين الجمع عبثا دون ان يكلم احد، ففي ذلك اليوم ، اخترقت حواسه رائحة غريبة لعطر لم يعهده في مثل هذه الجنازات الشبة يومية، عطر سحبه كالمغناطيس إليه ، ليجد امامه رجلا يضع نظارات بإطار ملون ..هذا أولا ..ويلبس بنطلون جينز يبدو عليه أنه غالي الثمن ويخبئ الجينز بداخله جسدا يصارع الكهولة بعنف ، كان شعره ابيض مسرح بعناية شديدة كما كان قميصه أبيض كذلك مثل الباقين ولكنه يختلف عنهم بأنه مصنوع من قماش البشتان الأكثر حيوية وأناقة وكذلك فإنه اطلق سراحة خارج حدود الحزام وذلك أيضا خلافا للباقين الذين أصروا على إدخال قمصانهم البيضاء داخل بناطيلهم السوداء كطيور البينجوين العالقة بين اليابسة الرطبة والجو البخيل.
- مرحبا…الست اميل؟؟
- نعم
- انا سامي الا تتذكرني؟
- دعني اتذكر..اه سامي..لقد اختفيت
- نعم ..هاجرت منذ مدة لكندا..وأنت؟
- أنا ..ماذا؟..أنا هنا ، لا أزال هنا..
- غريب أمرك…من يبقى هنا؟ أسف أقصد…
- لا حاجة للتأسف..معك حق
- معظم عائلتكم في ميشيغان على ما اعتقد
- ولكن أنا هنا…ما العمل
- ولكنك تبدو جيدا…القليل من الدهون …سمعت عن سوسن…انا اسف لقد كانت اجمل فتاة في البلد ، كانت حب حياة أخى لقد اكتئب من وقتها…لم يصدق ان كل هذا الجمال والذكاء قد تتجه الى الجنون بهذه الطريقة..
- لقد أصبحت شبحا ، يرسل لعنته من المؤسسة المغلقة من حين لآخر..
- اسف مرة أخرى لأنني قلبت المواجع، المرحوم هو ابن عمي، ولكنني هنا بالصدفة جئت ازور والدتي..لم آت خصيصا..
- هذا من حظي..كي نلتقي…
- اسمع انا متزوج الأن ..زوجتي فرنسية ولي ثلاث بنات، نحن في كندا نتقبل كثيرا هذه الأمور…هل تتذكر مغامراتنا في حرش تشرتشل وفي شقتكم الفارغة
- نعم…بالتأكيد…كنا أصغر..
- نعم ..ولكنني لم انسى يوما رائحة جسمك
- يقولون ان المتزوجون يتناسون..
- أنا لا انسى بسهولة..لا انسى طعم…في فمي…دعنا من هذه الجنازة السخيفة …لنجد زاوية ما في احدى الكراجات التي تغلق في مثل هذه الساعة
نسي إميل أنه لم يستحم يومها..ولا في اليوم الذي قبله..ولا الذي قبله. فمن يستحم استعدادا لجنازة روتينية تملأها الروبوتات البشرية..ولكنه تذكر ذلك عندما عبقت الرائحة الكريهة في وجه سامي الذي كان ينتظر أير إميل بفارغ الصبر ليلج فمه المفتوح…ولكن سامي لم يصدر أي صوت بل اختفى ببساطة شديدة كفقاعة صابون كبيرة وكأنه لم يكن…