الانتظار بثلاثة ألوان وثلاثة أسماء / ياسر السعدي

| ياسر السعدي|

في غرفةِ الانتظار ,لوحةٌ تملؤهما الخطوطُ مُدعيّةً أنها تأويلٌ قذفهُ من رسمها في وجهِ من يراها ليقذف بدورهِ تأويلاً آخر ,الطبيبُ عربيّ و هذا يجعلُ زبائنهُ عرباً و ألماناً ,التنوع الثقافي ,تنوعُ وضعياتِ الجلوسِ و تنوعُ تناولِ كل زبونٍ لموبايلهِ هو ما يجعلُ الملل يسريّ بسرعةٍ طرديةٍ مع طول الانتظار .

الموعدُ المُسبقُ يعني أفضليةً في جعل الانتظار معدوماً ,لم أستطع النوم ولأنيّ أظنُّ أن الأمر مرتبطٌ بالجسدِ وشرطِ وظيفتهِ العصبيةِ وانعكاساتها السّلوكية, ذهبتُ صبّاحاً غير آبهٍ بالانتظار ,النّعاسُ يزيدُ مع تدّفق ضوءِ التاسعةِ صباحاً في غرفةِ الانتظار ذاتِ النافذةِ المكشوفةِ السّتائر الواحدة كوحدانيةِ اللوحةِ المُخططةِ تأويلياً , التنوعُ الثقافي والمرضي للزبائن يجعل انتظار الطبيب العام الواحدِ ذو اللغتين يقللُ النعاس ,إحداهن تعطس وتكتبُ و تبتسمُ لتكتب ,و أحدهم يضع يدّه على بطنهِ برأسٍ لا يكفُّ عن الحركة و الثالثُ داكنُ الوجهِ مع زوجتهِ الهادئةِ دون تعابيرٍ مع نظرةٍ ذاتِ زاويةٍ حادةٍ إلى أرض الغرفةِ البُنيةِ و طفليّنِ بجوارها لا يكفانِ عن الزّعيق ,لكن أبوهما كان حازماً معهما لإخراسهما بلهجةٍ تبدو عربيةً بطريقةٍ ما .

السّاعاتُ تليّ نفسها و تتقدمُ لنقطةِ العاشرةِ و النصفِ صبّاحاً ,يناديّ الطبيبُ بنفسهِ ,المريضَ التّالي كما فعل و حان دوري لأُسألَ عن شكوايّ .

تبعتهُ في البهوِ المستطيلِ الذيّ يُشكلُ مركزهُ طاولةُ السّكرتيرةِ البدينةِ بشعرها الملّونِ بين الأزرقِ و الزّهري وعلى يمينها الهاتف وعلى يسارها آلةُ قراءةِ بطاقاتُ التّأمينِ الصّحي ,إعطاءها البطاقة عند الدّخول لتُدخلها لهذه الآلةِ التي تُشبهُ آلاتِ الدّفعِ الأخرى يوّفر مقعداً في غرفةِ الانتظار و نداءً يطوّلُ من دون الموعدِ المسبق من ذلك الصّوتِ العربي الجافِ الأجش .

تبعته إلى غرفةِ المعاينة ,جلس على الكرسي المقابل للكمبيوتر و جلست على الكرسي الذي يلي يمينهُ و في هذه الغرفة ,خرائطُ جسد الإنسانِ فقط على الجدران ,السّؤال المُعتادُ لأي موظف في دائرةِ العمل أو في دائرة اللاجئين

تتغيرُ نبرتهُ هنا ,فتح ملفيّ الطبي في كمبيوتره, حكّ رأسهُ الذي يسيلُ شعراً طويلاً نسبياً مجعداً بكثافة ,ثم حكّ لحيتهُ الكثةَ بسرعةٍ كالمشطِ ,الأسودُ و الأبيضُ يغزو مساحاتِ الحك ,وجههُ الأسمرُ العريض و قامتهُ البدينةُ جعلتني أرى شبهاً بيننا قاطعهُ بقولهِ

  • شو صاير معك ؟
  • ما عم إحسن نام
  • شو فيني أعمل يعني

قالها بنزقٍ دون أن ينظر من خلف نظارتهِ إلي

  • بدي غيّر معالجي النفسي ,بدي أدوية لنام مو بس حكي بحكي!
  • طيب ,طيب

قالها مهدداً بطريقةٍ ما

  • كلكون هيك ,بتضوعوني لأعرف شو بدكون !
  • مين نحنا ليش !
  • خلص خلص ,رح اعطيك تحويلة جديدة
  • تعال معي

انتفض من الكرسي ثم تبعتهُ إلى طاولةِ السكرتيرةِ في البهو ,طبّع التحويلةَ من هناك على الآلةِ الثالثةِ في مكانها ,آلةُ طبع التحويلاتِ الطبية ,ثم أخبرها ماذا تعطيني أيضاً ونادى الزبون التالي دون أن ينظر إلي ,كم يشبهُ أطباء الثكناتِ العسكرية ,كم شعرت بالبغضِ تجاهه رغم أن الشّبه عادةً كفيلٌ بكيمياءٍ معينةٍ تُحدثُ راحةً كيميائيةً ما ,أعطتني التحويلةَ و إلى أي مكان يجبُ أن أذهب ,ابتسمت حينما أمسكتُ الورقتين و قالت:

  • أتمنى لك يوماً سعيداً
  • شكراً ,لكِ كذلك

مضيتُ من هناك نحو الباب و على الدرجِ الخشبي المُلتفِ دون زاوية من الطابقِ الثالثِ إلى الأرض ,بدأت أقرأ ما ظننت أنهُ جمعهُ من تقريرِ معالجي النفسي المرسل للطبيب العام ,لا أملك إلا الظن بعد تلك المعاينةِ السّخيفة ,في الورقةِ الثانيةِ عنوانُ مشفى خارج المدينة للأمراضِ العصبية ,ما كُتبِ في الورقةِ الأولى

أفكار انتحارية ,قلق مزمن ,عُقدُ نقصٍ مركبة و بجانبِ كل اسم رقمٌ ما يوحي إلى أيّ حدٍّ قرر معالجي النفسي ارتفاع كل اسم من الأسماءِ الثلاثة في الموضوعِ الذي هو أنا .

الإنكارُ كان صاخباً كتغيّر الهواءِ إلى ريح ,الشّجرُ على طرفيّ الطريق ينتظرُ هذهِ الرّيح ليتعرى من الورقِ الأصفر من موتِ أوراقهِ ليكون عظماً داكنّاً بدأت تكسوهُ ظلال الغيوم من الآن ,الريحُ تُحركُ كل شيء ,الغيوم البيضاءَ و الرّمادية ,الأوراق الصفراءَ من منابتها ,الأكياس البلاستيكية المرميّة بشكلٍ ما هنا و هناك على الرّصيف ,إحداهنَ تسيرُ مع كلبها على الرصيفِ ذاتهِ وها هو كلبها يتبولُ على احدى الأشجارِ التي ستكونُ بعد خطواتٍ على يميني ,بقايا الغابةِ في المدينة ,أماكنٌ لتبولِ كلابِ المدينة ,العشبُ الذي يُحيطُ تلك الشّجرةَ أصبح ندّياً عندما نظرتُ إليه ,بولُ ذلك الكلبِ يؤمنُ وحشيةً ما تتوقُ إليها تلك الأعشاب ,وصلتُ إلى الإشارةِ لأقطع الشّارع ,تغيّرت إلى اللونِ الأحمر ,نظرتُ إلى الورقتين مُجدداً و شعرتُ بالنّعاس ثقيلاً ,تثاءبتُ ,من لا يفكرُ بالموتِ و الحياةِ و الانتحار واللون الأحمرُ بينهما يقولُ الكثير ,من لا يشعرُ بالقلقِ مما سيأتي و مما يأتي في كل حُلم يملأه النومُ أو تملئهُ اليقظة ,من لا يشعرُ بأن عليه أن ينتصب كل يومٍ ليُحقق امتلاءً لعُقدٍ النقصِ المركبّةِ التي يقولها الآباءُ لأطفالهم ,عندما تكبر يمكنك فعل ذلك و ذاك ,ألا يشعرُ كلُ الأطفالِ بعُقدٍ النقصِ إذاً ؟ اللغةُ نقصٌ في التعبيرِ كالرّسمِ و الرّقص والعلمُ بكلّ حاشيتهِ و معابدهِ ككل الكنائسِ يُبجلُ النقصَ كآليةٍ تحملُ وقودها سائرةً إلى الأمام ,الكنيسةُ تدّقُ أجراسها الآن , من هو الذي لا يُفكرُ بالموتِ والولادةِ ,على هويةِ إقامتي في ألمانيا ,تاريخُ صلاحيّةٍ يُحددُ البدايةَ و النهاية ,يُمكنُ قراءةُ ذلك على عُلبِ التونا كذلك ,من هو الذي لا يملكُ ذاكرةً تُقرُّ بالقلقِ والنقصِ كدوافعٍ حيويةٍ نفسيةٍ اجتماعية ؟ الكسلُ هو الفضيحةُ لا أكثر ,مرآةٌ و سوطٌ معاً يمكن أن يُقال عن الكسل ,الكسلُ سخرية .

الإشارةُ أصبحت صفراء ,أصبحت خضراء ,هناك سلةٌ لرّمي القاذوراتِ على عامودِ الإنارةِ على يميني ,محاذيّاً لخطِ الشّجر ,لكنّي أردتُ أن أرى تلك الأوراقَ البيضاء ,المكتوبةَ بواسطةٍ الآلةِ الثالثةِ على طاولةِ السكرتيرةِ البدينة ,تلعبُ مع أوراقِ الشّجرِ الصّفراء التي ترميها الأشجارُ كسولةً وهي لا تعبأ بالرّيح المُبشرة بالشتاءِ بعد الخريف ,رميتها و أنا أشعرُ بالأسى على ذلك الطبيبِ و وعدتُ نفسي بألا أكون هناك مجدداً ,بعد ثوانٍ أمسكتها مُجدداً من يدِ الريح ,وضعتها في جيبِ الجاكيتِ الأيسر وأخرجتُ مصنع السجائرِ اليدوي من جيبيّ الأيمن ,اعتدّتُ أن أضعّ المفاتيح في جيبِ البنطالِ الأيمن و في جيبهِ الأيسر محفظتي وهويتي والبطاقاتِ التي تنتمي إلى بطاقةِ الهوية .

لففتُ سيجارةً و أشعلتها ,مُبتسماً ,خدراناً ,منتشياً بعودةِ النّعاس أثقل و أثقل ,كلبٌ آخرُ تقدّم  تجاهي، بدأ يشمّني ,تعريفُ الكلبِ للأشياءِ مُختلف ,صاحبهُ خلفهُ يسير ,عجوزٌ أبيضٌ يبتسم لكلبهِ و ثم نظر إلي مبتسماً ,الكلبُ الثاني هذا الصباحِ أكبرُ حجماً من الأول ,لونهُ الأسودُ القاتم و عينيهِ البُنيتين بكثافةِ أجمل ,كما أن ابتسامة العجوز جعلتني أقول لهُ

  • صباح الخير
  • صباح الخير

وابتسامتهُ أصبحت أكثر وضوحاً عند إجابتهِ ,عند إقترابهِ ,أردتُ أن أسألهُ عن شارعِ بيتي القريب رغم أني اعرفُ أن ثلاثة دقائقٍ كافيّةٌ للوصول ,

  • أين يقع شارعُ هينريك لو سمحت ؟
  • آه ,أجل ,أنهُ يقعُ بعد شارعِ كارل على اليسار ,عليك بالمشي لآخرِ الشارع ثم إلى اليسار

وضع يدهُ على ظهري ,مُشيراً بيدهِ اليُسرى إلى الاتجاهات القادمة ,ممسكاً بعصاهُ الخشبيةِ بيمنّاه و رجع كلبهُ الذي تقدّم قليلاً ليشُمّني مُجدداً ,يرتدي معطفاً بنياً أصفراً بطريقةٍ ما و بنطالاً أبيض  ناصعاً ,يُشبهُ رداء الطبيبِ العربي الذي يشبهني كثيراً وحذاءً أسود كحذائي تماماً ,ابتسمتُ أكثر في وجهه ، شكرتهُ و تمنيتُ لهُ يوماً طيباً كما تمنّت ليّ السّكرتيرة ,مضيتُ في الاتجاه الذّي رسمهُ العجوزُ رغم أنهُ أبعد من الاتجاه الذي كانت ستسيرُ وفقهُ ذاكرتي قبل سؤالهِ ,الشّمسُ تعود ,تعيدها الرّيحُ الآن ,سريريّ البنيّ مريحٌ حقاً ,النّومُ أصبح مغريّاً أكثر ,السّماءُ خارجاً رماديّةٌ عادت للونها الذي امتطتها لأسبوعٍ مضى ,عليّ أن لا أنام طويلاً ,فلتكنّ قيلولةً إذن تُحددها السّاعةُ لأنبعث حيّاً من جديد و لأعود للنّومِ ليلاً ,كلبُ جارتي ينبحُ في شقتها ,مُبتسماً، دنوتُ أكثر و أكثر.. لأغيب .