وجه “فيكا” / ياسر السعدي

| ياسر السعدي |

| اللوحة : بدون عنوان-2015- ناصر حسين-سوريا |

أطفالٌ كثرٌ بوجوهٍ مُجعدةٍ ,تحت عيونهم أرى غيوماً كثّةً من جلد ,لهم لحى أيضاً ,الشعرُ فيها منتصبٌ حادٌ متباعد ,لم أعلم ,لم يقلّ لي أحد ,لما يحفرون و يحفرون دون توقفٍ في الرّملِ ,لكن الغاية كما أرى بعد أن يتلو المشهدُ المشهد ,بناءُ جبلٍ عالٍ من رمل ,كانت الشّمسُ تملئُ كل شيءٍ لوناً أحمراً ,كما تفعلُ عند المغيبِ .

صحوت بعدها و بدأتُ اعتادُ على ارتيادِ السجون و حُجراتِ التعذيبِ و الثكناتِ و أرضِ بلديّ و الركضِ عارياً بين المدينةِ التي أعيشُ فيها و المدينةُ التي ولدتُ فيها لألاحظ أن تركيبةَ السّورِ في المدينتينِ واحدةٌ رغم اختلاف ألسنةِ البنائيينِ و ألوانِ حناجرهم ,لم يعدّ الأمرُ مدهشاً .

مرةً صحوتُ و أخبرتُ عشيقتي قبل عامين ,أن أميّ و أختي قد أُصيبتا برصاصٍ قناصٍ هذهِ المرة ,قبل أيامٍ أخبرتها أن منزلنا عندما كنّا فيهِ نأكلُ صباحاً ,أنفجر فيه صوت اللهُ أكبر ,ليحلّ بعدها تساقطهُ دفعةً واحدة ,أخبرتني أن المعالجَ النفسي و آلياتِ علاجِ ما بعد الصّدمةِ تنفعُ أكثر مما أتوقع ,بعد أشهرٍ من سماعِ النصيحةِ لم يحدث إلا المللُ و الكسلُ من المعالجِ و أسرارهِ العلاجية ,بعد أشهرٍ تحوّلت تلك العشيقةُ إلى أحلامٍ أيضاً ,أقلُّ كفاءةً في التخويف و أكثرُ كثافةً في الإيلام .

وعدتُ صديقاً ليّ أن أزورهُ في مصحٍ لمعالجةِ المصدومين بعد أن بلغت يقظتهُ أيضاً حدّاً غدا معادياً لهُ إلى درجةٍ تقولُ عنها الشّرطةُ أنها بعيدة و أن المكانَ الأنسبُ هو ذاك المصحُ المحاطُ بالشجرِ العالي .

كان لقاءاً حاراً كما اعتدنا أن يكون كل لقاءٍ بيننا ,رغم الفرقةِ التي حلّت بيننا لأشهرٍ لأسبابٍ عدةٍ و كان أحدها يقظةُ صديقيّ التي يعطونهُ الأدويةَ لجعلها تقعُ في هدنةٍ معه .

لم أتخيّل أننا سنجلسُ داخل القسم الذي تنتمي غرفتهُ إليه ,هناك غرفةٌ للمدخنين و قاعةُ غداءٍ و قاعةٌ أخرى لمن أرادَ من روادِ الصدماتِ أن يتكلم عن أشياءٍ يوميةٍ مع آخرين يوّدون الحديث عنها أيضاً .

المقاعدُ الخشبيةُ الصّغيرةُ في غرفة التدخينِ ,كانت تقابلُ الطاولاتِ الخشبيةِ التي تجاور الجدارينِ الأيسر و الأيمن ,بابٌ عريضٌ للدخول من البهو العامِ للقسم ,تعلوهُ إشارةُ المخرج التي ترى فيها شكلاً لأحدٍ ما يركض , و فوق ذلك البابِ نوافذٌ تُطلُّ على السّماءِ الخريفيةِ المكتظةِ بالغيومِ الرماديةِ و البيضاءِ التي تحتفي ببعضها و تركضُ في الريح الذي كان يُقبلُ الأرض و يجعلُ الجميع يرتدي معاطفاً في محطاتِ الترام التي عبرتها لأصلّ ,لكنني في تلك اللحظةِ رأيتُ ما حدّث في السّماء ,لم انتبه لذلك قبل جلوسي و عينيّ في اتجاهِ بابِ البهو.

جلس صديقي و كان في قبالتهِ بابٌ عريضٌ آخرُ يُطلُ على حديقةٍ لم أنظر إليها إلا بعد قليل , منفضةُ السّجائرِ كانت مفعولةً من الورقِ المعدنيّ الفضيّ الذي تُلفُ به السندويش , لا أدري كم هو الأمرُ صدفةً أو ربما لا وجود للصدف في أماكنَ كهذه كأيّ أماكنٍ أخرى ,هنا نحنُ بدأنا ندخنُ و نلقي رمادنا و نضحكُ لنعبر ذاكرةً و نقف فيها عندما دخنّا معاً أول مرة في أحدِ الأبنيةِ التي ما زالت تُبنى ,في أحد هروباتنا المتكررةِ من المدرسةِ لندخن فقط في مكانٍ لا يرانا أحدٌ فيه ,تذكرنا العصا التي كان يُعاقبُ فيها الموّجهُ المدرسيُ المتأخرين و أن هروبنا منذُ الصباحِ كان مُنقذاً من التأخير الذي كان أحياناً يبدو قسرياً .

كلانا هرب إلى نقطةٍ في ذاكرةِ الآخرِ تستجلبُ الضّحك الذي يعنونُ الصّداقة العتيقة , من أجلّ الضّحكِ سارعتُ لأذكرهُ بعصبيةِ أبيهِ عندما أتصلتُ متأخراً لأسأل عنهُ ذات مساء و شتمهُ ليّ و لابنهِ و تذكيرهُ ليّ بأن الوقت متأخرٌ للثرثرةِ الفارغةِ وقتها ,لم يضحك أو يقلّ أيّ شيء ذلك الآخرُ قبالتي ,بل قال ليّ أنهُ تنازل عن إرثهِ البعيدِ الذي لا يعلمُ أحدٌ بنجاتهِ من القصفِ أو عدمها لأمهِ ذات السّبعين عاماً .

لم أسألهُ عن التنازل ,لكنّهُ بدأ يلفُ سيجارةً أخرى ناظراً إلى الطاولةِ ثم بدأ يمسحً رأسهُ مغمضا عينيهِ ليتابع لف السيجارة ,قال أنهُ اشتاق ليّ ,ان زيارةِ تجعلُ الماكن مُضيئاً ” نوّرت يا معلم” .

دخل أحدٌ آخرٌ إلى الغرفةِ ,قال لنا مرحباً و جلس على طاولةٍ أخرى أقرب لبابِ الدخولِ من طاولتنا على الجانبِ الآخرِ ,ظهر صديقي لهُ و وجهي كان له ,عجوزٌ بلحيةٍ كثةٍ و شعرٍ مجعدٍ أبيض ,بدينٌ بأنفٍ تعلو سطحه البثور ,الوجوهُ الجديدةُ تكتب نفسها أكثر ,معهُ راديو أضاف من خلالهِ موسيقى كلاسيكية على المكان و جعل لحركةِ الغيومِ التي كنت أنظر إليها كل قليلٍ معنى تُحركهُ دفاتُ العلو و الدّنو القادمةُ من جهازِ الراديو الصغير ,بدأ يُدخنُ و بعدها بدأ يسعل كثيراً .

أشعل صديقي سيجارتهُ ,قلتُ لهُ “ظريف هل الحجي”

فوراً ترجم ذلك له ” فيكا ! أعجبت صديقي”

ابتسم ليّ و أعاد قولهُ مرحباً لي ,دخلت أحداهن من البابِ خلفي ,تقولُ مرحباً ,نظرتُ إلى مصدرِ المرحبا الجديدة ,نظرتُ للحديقةِ الصغيرةِ لذلك القسمِ التي لا وجود لأشجارٍ عاليةٍ فيها كالحديقةٍ الرئيسيةِ في المشفى ,التي يعبرها الزّائرُ ليصل إلى أقسامِ المشفى المختلفة ,كانت بدينةً أيضاً ,تلبسُ صوفاً و وجهها مشحونٌ بالبدانةِ كوجهِ صديقي و وجه فيكا أيضاً ,لكنها لم تبتسم .

كانت تريدُ العبور إلى البهو عبر غرفةِ الدّخانِ و الموسيقى و الغيومِ و الضحكِ و الدّهشةِ و العتبِ و الحزنِ ,دخلت ثم رجعت في ثوانٍ بعد غيابها نحو اليسار لتفتح الباب و تقولُ بالألمانية

“طعامُ العشاءِ جاهز”

سارع فيكا إلى الدخول مُقفلاً موسيقاه و رامياً لسيجارتهِ التي كلفتهُ السّعال ,ثم نادى صديقي لأحدهم كان يراهُ يجلسُ خارجاً ليأكل أيضاً .

كنت جائعاً فسألت صديقي ,دخلنا البهو و سأل هو بدورهِ ,أحد اثنينِ يجلسانِ في غرفةٍ بلوريةٍ بعد أن طرق بابهما الزّجاجي ,أجابهُ بالألمانيةِ أن ذلك غيرُ واردٍ لكنهُ ممكنٌ لضيفك الآن .

أخذتُ صحناً و وضعتُ فيهِ ما يوجدُ على الطاولةِ ,جلسنا قبالةَ بعضنا و الآخرون بدأوا كذلك بالجلوس و افتعال صوتِ الشوكةِ و الصّحن ,لم يتكلم أحد إلا أنا و صديقي ,العربيةُ كانت عاليةً جداً ,سألني “أنت كيفك ؟ شو عم تعمل ؟ شو عم تساوي ؟”

لم أجاريهِ بصوتهِ الذي كان عالياً ,تكلمتُ منخفضاً ,عن كل شيء بأنهُ جيد ,و أني أنهيتُ دورة اللغةِ و اني انتظرُ موعداً مع دائرةِ العمل قريباً و أن علاقتي مازالت جيدةً مع عشيقتي التي سافرت إلى فرنسا لمدةٍ عامٍ للعمل هناك في مدرسةٍ للمعوقين , كان يسألُ في تفاصيلِ كل أجوبتي المنخفضة ليجعلها تعلو ,” أحكي عادي ,ازا صوتك عالي او لاء هون ما حدا بيهمو”.

عُدّنا إلى طاولتنا الأخرى لنّدخن سيجارة الوداع ,انقضت ساعةُ الزيارةِ سريعاً حتى أني تجاوزتها و بلغتُ وقت العشاء ,لم يطالبني أحدٌ بالخروج لكنني تذكرتُ أن موعد الزيارةِ ينتهي عند السادسة ,ليس هناك ساعاتٌ على الجدران ,لكني أملكُ هاتفاً في جيبي يُذكرني أنهُ في جيبيّ عندما ألفُ ساقاً فوق ساق ,على الجدارِ الأيسرِ لوحٌ مكتوبٌ عليهِ كلماتٌ و جملٌ بالألمانية ,سألتُ صديقي متجاوزاً موقعيّ كزائرٍ مجدداً ,”فيني أكتب شي هون ؟”

” فيك تكتب ,الطبشور بالفنجان على حفةِ اللوح”

كتبت “شكرا” بالالمانية ,ثم رجعتُ و في ثوانٍ الرجعةِ تلك ,قدمت المُتلحفةُ بالصّوف مجدداً ,مسرعةً هذهِ المرة و قالت ” هذه شكراً ؟ شكراً أليس كذلك ؟”

جاوبها صديقيّ ,لم تبتسم ثم رجعت للبهو .

أحياناً نهربُ من تذكر الفراق و كل تفاصيلهِ و علاماته و آلياتِ نسجهِ ,لكنيّ عندما وقفتُ عند محطةِ الترام مجدداً للعودة ,بكيتُ بدمعةٍ واحدة ,عجوزٌ كان يقفُ هناك ينظرُ الترام القادم بعد دقيقتين ,هو أيضاً مكسوٌ بالصّوفِ و كان وجههُ الذي يلتفُ للوراءِ و الأمامِ شبيهاً بأحدِ أطفالِ الحفرةِ و جبلِ الرمل في يقظةِ الحلم التي عبرت يقظة يومي ,وجهٌ كثيفٌ كوجهِ “فيكا” .

عدّتُ إلى النومِ بعد ساعاتٍ من نوعِ حركةٍ آليّ إلى آخر ,حُلميّ اليوم لا أطفال فيه .