كابتين فانتاستيك نموذجا: جحيم الهويات الذي فينا / راجي بطحيش
| راجي بطحيش |
في الفيلم الأمريكي “كابتن فانتاستيك” والذي عرض في العام الماضي، يتسلم البطل الذي يعيش حياة برية مع أولاده الستة ضمن بيئة منعزلة تماما عن الحضارة الاستهلاكية والتكنولوجيا، خبر موت زوجته وأم أولاده المصابة بثنائية القطبية انتحارا في بيت أهلها المسيحيين المتشددين والذين يقاطعوه بسبب نمط الحياة الذي اختاره له ولأولاده، فيقرر بضغط من أولاده اصطحابهم في كرفانهم المتنقل لحضور جنازة الأم، حيث تتطور معظم أحداث الفيلم الذي يندرج ضمن ما يعرف أمريكيا بسينما الطرقات النقدية.
في طريقهم إلى الجنازة يتوقف الأب وأولاده في محطة لدى شقيقته التي تنتمي للطبقة الوسطى التي تقطن ضواحي المدن الأمريكية في بيوت كاملة الرفاهية ( لكنها لا تعتبر قصورا) تكاد تتشابه برتابة شكلها وتعقيمه، يمكن شرائها بقرض سكني تلازم دفعاته العائلة مدى العمر وأكثر، تجلس العائلة على مائدة الطعام حيث يظهر الإرتباك الممزوج بالشوق على الأخت تجاه أخيها وكأنها تخاف أمرا أو سرا ما بينما يتصرف زوجها بدماثة ولطف مبالغين وكأنه يريد حماية بنيانا اجتماعيا وعائليا من الكمال قد ينهار فجأة إن هو أزاح عنه النظر للحظة، يبدأ الحديث على المائدة حول وفاة الأم وظروفه فيشترك أولادها الصغار بالحديث بمباركة الأب ، فيسمون الأمور بأسمها ويتحدثون بطبيعية شديدة وبنضج كبير ممزوج بفظاظة لفظية مثيرة حول حقائق الحياة، وعن مرض والدتهم، واكتئابها الحاد في الماضي ومرض ثنائية القطبية عامة ومحاولاتها العديدة للانتحار وعن موتها، تسكتهم العمة وتحاول تغيير الموضوع وتطلب من الأب راجية إياه أن يغير محور الحديث مستعينة بتعابير إيمائية ، ثم وبعد أن لا تشفع لها تلك الإيحاءات تسكت أخاها وأولاده بنبرة أعلى وأعلى مدعية أن هذه المصطلحات لا تجوز ولا يمكن أن تذكر في بيتها وأنها لا تريد أن يسمع أولادها عن هذه المواضيع لأنها لا تلائم أعمارهم وستؤثر على نموهم العاطفي وذلك وسط ذهول زوجها واحتقان وجهه وهو يراقب بنيانه المتكامل يتداعى أمامه وزوجته الحقوقية وهي تغادر المائدة باكية ربما لأول مرة في حياتهم المشتركة المعقمة بعناية، في المشهد التالي نرى أبناء العمة وأبناء وبنات الخال يجلسون أمام شاشة عملاقة حيث يلعب أبناء العمة بطبيعية جسدية شديدة بالبلاي ستايشن وتحديدا بلعبة عنيفة ودموية جدا تتحرك فيها الشخصيات بفظاظة قصوى حيث تبدو السادية عليهم بوضوح بينما تظهر الأم بالخلفية وكأن ما يحدث في البيت يندرج ضمن أحداث الحياة اليومية الرتيبة والمنطقية جدا وفق مفاهيمها، لنشاهد أثناء ذلك وبعده انعكاس أضواء اللعبة العنيفة على وجوه الأطفال حيث يحرك أبناء العمة محركات البلاي ستيشن بطبيعية شديدة وبسعادة ما، أما أولاد الأخ فيسكنهم ذهول شامل وكأنهم شاهدو الكون يتفجر أمامهم. يذكر هذا المشهد بالطيار الإسرائيلي الأبيض الذي يقصف مدرسة في غزة ويقتل أطفالها في الصباح ثم يرافق زوجته في المساء لمشاهدة فيلم عن معاناة أطفال عشوائيات هافانا على سبيل المثال…
لم يأت انهيار الأخت على مائدة الطعام عبثيا، فهو يعبر عن مسار تاريخي اجتماعي (تشكل برية كابتن فنتاستيك مرآتها) مضت به الطبقات الوسطى المثقفة عامة في المجتمعات الرأسمالية الغربية وللأسف فقد وصل إلينا للشرق الأوسط بتعابير وأشكال اكثر وأكثر تشويها …ففي حين تحصل فئات اجتماعية صاعدة ومتغيرة على الدرجات العلمية التي تؤهلها كي تصعد اجتماعيا واقتصاديا يبقى الصعود أو الارتقاء الثقافي هو الحلقة الأضعف في هذه السلسلة، ففي حين تستهلك فئات معينة من صناع الثقافة والفنون والمفكرين عامة الثقافة بطبيعية ودون تكلف(هذا إن أردت أن أكون متفائلا) وذلك نتيجة وجود إرث ثقافي متنوع المصادر لدى هؤلاء، تصبح الفئات الأخرى التي تملك إرثا ثقافيا أكثر تواضعا بحاجة لمعنى هواياتي ثقافي يثبّت انعكاسات ونتائج تغيرها الثقافي وانفصالها عن ماضيها وعن “عامة الشعب” ليس فقط اقتصاديا واجتماعيا بل ثقافيا أيضا. فيسلك الكثيرون وخاصة أولئك الذين يعملون ضمن مجتمعات المؤسسات غير الربحية “ngo”التي غزت منطقتنا في العقدين الأخيرين مسلكا شبيها لما آلت إليه العمة في الفيلم، حيث يحصنون أنفسهم ويحيطونها بخطابات هوياتية مستوردة بدءا من الخطابات الجندرية والجنسية مرورا بالخطابات الحقوق إنسانية والحيوانية والبيئية وصولا إلى الخطابات العبثية للتنمية البشرية والطاقات الإيجابية والسلبية وما إلى ذلك وهي عبارة عن قاموس لغوي وأدائي صارم من المصطلحات الهوياتية وثنائيات ممنوع/مسموح ، ما يقال وما يجب ألا يقال وأين وكيف وأمام من؟ يسجن هؤلاء الأشخاص أنفسهم بشكل يبدأ بشكل استعراضي ليتحول إلى سلفي ومرضي وخال من المضمون الحقيقي، ما يحول هؤلاء إلى ضحايا مزمنين دون قامع واحد واضح ، هشين وجاهزين لضربة قادمة لم يستدعوها، من قبل معنفين وهميين ومتخيلين تعج بهم الأماكن…كل الأماكن…بينما يتجول المعنِفون الحقيقيون في طرقات وأزقة الطبقة التي باتت أدنى، يجهزون أو يرتكبون بالفعل الاغتصاب أو الجريمة التاليين.
في مشهد تالي يدخل الأخ وأخته في جدل صاخب حول أنماط حياة كل منهما وأيهما أصح لتربية الأطفال، فيدعو الأخ أولاده وأولاد أخته ويطرح عليهم بعض الأسئلة لينكشف مدى جهل أولاد أخته وبلادة مشاعرهم مقابل الإرث الثقافي الذي يملكه أولاده والأهم من ذلك غناهم العاطفي.