مقطع من رواية “رجل من ساتان” / صهيب أيوب

| صهيب أيوب |

 

قتلوني برصاصة واحدة. لم يأخذوا سوى مسدّسي من الخزانة وبضع كنزات صوفيّة حاكها لي فريدريك قبل أن ينتحر وحيداً في الغابة، تاركاً شنطة ظهر فارغة وعبوات من الفودكا مغلقة في بيت أرضي، ولا رسالة وداع. لم أحك مع فريدريك منذ عامين. اتّصل مرّة واحدة. أخبرني أنّه اشترى مرسماً وأنّه ينوي قضاء إجازة في البرتغال وأنّه مصاب بالسيدا. لفظ جملته بلا اكتراث، وودّعني بكلمات قليلة. لم أجرؤ على الاتصال به يوماً. كان لي رغبة في أن أخبره بما يدور في رأسي، أن أشاركه بشيء حميم بعد طول انقطاع، لكنّي عدلت عن الفكرة.

 

انتظرت يومين كاملين قبل إجراء الفحوص، وأنا أتخيّل مشهد انتحاره وسط الأشجار، مادّاً جسمه الفارع بين الظلال المتربة، عيناه شاخصتان في السماء وثيابه متناسقة، واضعاً سكيناً حادّاً في يده اليسرى. لا أعلم أيّ يد اختار، لكنّي أظنّ أنّه قطع وريده الأيمن. كان يكتب لي رسائل بخط عجول، عادته منذ الطفولة التي عاشها بين بيت جدّته كريستيان وميتم تابع للكنيسة الكاثوليكية في النورماندي.

يتحدّث في رسائله عن الحبّ، ذاك الذي مات في قلبي.

 

قليلاً ما كان يحبّ الكلام، حتى في الحفلات التي كنّا نُدعى إليها. يطلب كأساً من المارتيني وينزوي جالساً على كرسيّ بعيداً منّا. أعابثه بقبلات في الهواء، فيبادلني بابتسامة حزينة. يلكزني للإسراع بالخروج. وحين عشنا معاً، كان يقضي أغلب وقته في الرسم. يشاركني وجبة العشاء، ثمّ ينام قربي ويغمرني بشدّة كأنّ كلّ يوم هو الوداع.

 

عشنا كغريبين يربطهما الموت داخل شقته في ضواحي باريس. يبيت قرب بابها كلب نحيل سمّيناه بوني، يصدر صوتاً مجروحاً حين ينبح. يغفو تحت سريرنا. لم يكن سريراً على أيّ حال. كان أشبه بخردة، تحوطه علاقات ثياب وأفيشات إيطالية وصورتان لفرنسواز آردي وبيار باولو بازوليني، عُلقتا بدبابيس ذهبيّة. وجهان عاشا معنا لأعوام ولم نضجر منهما. كانا مثبّتين على الجدار يبثان حزناً شفيفاً في الشقة، التي كان يزورها قلة من المعارف، ونكتفي فيها باحتساء الويسكي، محدّقين في بوني المسكين. لم أتخيّل أن يكون فريدريك آخر من أراه. هو الذي لم يحدث موته أيّ دهشة فيّ. لا بل أحسست بالانتقام. رأيته أمامي بوجه أصفر وبمعصم ينفر الدم منه، كأنه القاتل.

 

مقطع من رواية “رجل من ساتان” لصهيب أيوب الصادرة عن “دار نوفل / هاشيت” في بيروت