أنطولوجيا الأثداء / ضياء البوسالمي

| ضياء البوسالمي |

الثّدي: ثدي المرأة، وفي المحكم وغيرهِ: الثّدي معروف، يُذكَّر ويُؤنَّث

(لسان العرب)

 

أحبينى..

كزلزال.. كموت غير منتظر..

وخلى نهدك المعجون..

بالكبريت والشرر..

يهاجمني.. كذئب جائع خطر

(نزار قباني)

 

ينهضُ كلّ يوم وكأنّه يقتلع جذورا نبتت وامتدّت في الليل ربطته في السرير الى الأبد. يرتدي ملابسه المعتادة ويلقي نظرة على المرآة، يتفحّصُ انعكاس شحوبه ويتمتم: “يوم جديد في هذه الحرب.” كلّ يوم يصارع أثداء النساء، مهووس بهذه المنطقة المحرّمة من الجسد الأنثويّ. له فلسفته الخاصّة التي ألقاها في وجهه الطبيب النفسيّ كقنبلة موقوتة: “دكتور، النهود سرّ الوجود، هل سمعت يوما عن أنطولوجيا الأثداء؟”

كانت حصص الاستماع التي يقضيها مع طبيبه لا تغيّر من الوضعيّة ولا يتقدّم في العلاج قيد أنملة. يجلس قبالة النفسانيّ وإذا ما شرع هذا الأخير في تقديم النصائح وتدوين الملاحظات في دفتره، يتحوّل الكلام الى مجرّد طيف من الحروف التي تحلّق لتؤثّث جثّتين رابضتين فوق كرسيين من الخشب الفاخر. كلّ منهما مع بنات أفكاره ويغلّف الوهم الأذهان فيعتقد الطبيب أنّه مسيطر على الوضع ومتابع للحالة في حين يظلّ صديقنا شارد الذهن يقلّب بصره في الغرفة وهو يدير ذلك السؤال الوحيد العالق في أركان مخيّلته حتى يكاد يخرج من عينيه وينطبع على وجه كلّ شخص يقابله: “ما سرّ النهود؟”.. عاد الى العالم الواقعيّ وأخذ صوت الطبيب يعلو ببطء ليغطي على أوهامه. انّها نهاية الحصّة يستطيع الآن أن يريح مؤخّرته من هذا الكرسيّ ويصافح معالجه وينطلق حرا في الشارع.

جلس في ركن قصيّ من حديقة مقهى مطلّ على الشارع الرئيسيّ الذي لا تهدا فيه الحركة طيلة اليوم. كان يتساءل عن ردة فعل الطبيب لو أنّه دخل الى مخيّلته وأحسّ بهذا الشيء الكامن الذي يدفعه الى التحديق الى الأثداء ويجعله يتعلّق بها يوما بعد يوم. هل كان سيجنّبه ذلك مصاريف علاج تدوم منذ سنوات. “لماذا يصنفني الطب النفسيّ كمريض؟ ما الخلل في أن أقضي يومي أفكّر في النهود التي تعترض طريقي والتي تهتز غبطة بنظراتي التي تلتهمها؟”

انّه مرتبط ارتباطا وثيقا بأثداء النساء. لا تتحقّق ذاته ولا يحسّ بها مكتملة الاّ لحظة المؤدبة. نعم المؤدبة هكذا يسميّ اختلاسه النظر الى نهود النساء المارات او الجالسات بجانبه في أمكنة عموميّة. مجموعة من الطقوس التي يقوم بها كأن يعتدل في جلسته، يفتح ساقيه قليلا لكيلا يفاجئه انتصاب مباغت ثمّ يمرّر بصره من أعلى الى أسفل ومن اليمين الى الشمال كرجل آليّ مُبرمج. انّها طقوس التكحيل* التي برع فيها وأصبح قادرا على تدريسها بتفاصيلها الدقيقة.

في ذلك الشارع، كلّما أغمض عينيه، يتوسّع ما في ذهنه ليشمل كلّ الموجودات حوله يتمطّط عالمه فيرى نفسه في فضاء يعمّه السواد والأثداء فوانيس تحملها أيدٍ خفيّة لإنارة المكان وهو يتجوّل منبهرا بشُعاعها عاريا تماما وأيره ينتصب ويرتخي بانتظام مريب. يقول: “الرّجل كائن متأرجح بين المقدّمة والمؤخّرة. الأغلبيّة تفضّل الإست وتنسى فضل المقدّمة وسحرها.” كان هذا كلامه أمام أيّ شخص يصادفه ولو يتجاوز عمر علاقتهما دقائق معدودة. يتفرّس في عيني المتلقي كأنّه يتأكّد من تأثير جرعات كلماته ويواصل بصوت هادر كالموج: “يكفيني أنني صاحب مذهب في النّيك فالبوبز مفتاح الفروج المقفلة، أزرار لسبر أغوار النّفس، ستائر يسهل نزعها للاطّلاع على ديكور الركح، أعمدة تتودّد اليها وتدعو آلهة مجهولة لكيلا يلفظك الكائن السحري. لقد خلق الله الكون في ستّة أيام وخصّص يوما بأكمله للتفكير في شكل النهود. هذه هي القصّة الحقيقيّة دعك من قصّة الخلق الكلاسيكيّة. أنا أملك الخبر اليقين. ثمّة خيط رابط بين بين الرجل والثدي ربّما علاقة غامضة تتولّد جراء الفطام. تلك الحادثة التي تعشّش في اللاوعي ويتوعّد على إثرها الطفل بأن يقضي حياته ويكرسها للانتقام وإعادة حبل الوصل مع حلمات الأثداء التي حُرم منها. انا أقضي يوماً كاملا في الاستمتاع بالنهود. على ألسنتنا ان تشتغل في تلك الحلمات البارزة بحشمة زائفة من خلال القمصان الشفافة المشدودة. بيننا وبين الأثداء رابط قويّ أزليّ. هذا البعد الميتافيزيقيّ للنهد هو ما يشعرنا لحظة التقائنا به أنّنا في سكينة يصعب على المتصوفين بلوغها.. انّه ولع الأثداء.”

كان صاحبنا قناصا متأهّبا امام الاجّاص. يقضي يومه متمعّنا في أكوام الفاكهة يخزّنها في دماغه ويستدعيها تؤنس وحشته عند الحاجة. وفي المساء، يعيد شريط يومه.. انّه لا يحلم أحلاماً مستحيلة، يريد فقط أن يضاجع ثدياً. يتقلّب في فراشه ويحدّث نفسه: “غدا يوم جديد، يجب أن ننام ونريح أعيننا.”