ثالوث يمسك بتلابيب الخواء / ضياء بوسالمي
| ضياء بوسالمي |
كنّا طاولة.. طاولة بثلاث أرجل، نحمل شهواتنا على ظهورنا كالسلاحف الناعسة التي تحرث الشاطئ ولا تملّ من قطع المسافة مئات المرات. كراهبي دير منزوٍ خلف أعالي الجبال، كنا نقدّس طقوسنا التي دأبنا عليها منذ سنوات. نلتقي هنا، في هذه الشقّة المضيئة فنقتحمها، كما يقتحم الجنود قرية مستسلمة، لنسدل الستائر ونشعل شموعاً تبعث رائحة زكيّة تغلب تلك الرائحة العفنة التي عشّشت في الأركان. على ألحان “باخ”، الذي فاز بأن تكون موسيقاه رفيقتنا بعد معركة حامية الوطيس على اللاب توب، نشرع في خلع ملابسنا، نتجرّد من أعباء يومنا بأعين حالمة كأننا هندوس ينزلون الى نهر الغانج للاغتسال من خطاياهم. نحن أيضا سننزل مكانا ما.. الى أعماقنا ربّما. سنحفر في الجلد هوّة وندخل فيها الواحد تلو الآخر، نغوص في أجساد بعضنا البعض، يتسلّق كلّ منا الآخر ونعود الى طور الحيوانيّة في تحيّة عابرة للقردة، أبناء عمومتنا.
***
كنت مستلقيا في الوسط، تركا لي مساحة ضيّقة ليعصراني كبرتقالة سقطت، في غفلة من الجميع، بين الصناديق. أنفاسهما جملة موسيقيّة مضطربة تحاكي موسيقى باخ روعة لا بل تحيلها مجرّد خلفيّة بالكاد نسمعها. كانا كوحشين مفترسين. سيقان يغزوها الشعر، الذي يسترسل كثيفا ليصل الى الأير.. تلك المنطقة التي تخفّ فيها كثافة الشعر النديّ وكأنّها بقعة ضوء باهرة على مسرح أوبرا أو بيانو متأهّب للعازف ينتظر لحظة اللّقاء مع الأنامل الليّنة. مازلت في الوسط.. بدأت الأيدي تمتدّ فأحسست أنني طُوِّقْتُ بأطراف أخطبوط. كانا يلعقان لعابي العالق بأصابعهما بشراهة الصبية أمام الشوكولا.. أمامي أربع شفاه تلمع وسط الظلمة وتتمطّط على ألحان “باخ”، أربع شفاه.. شفتان لكلّ يد.. هكذا بدأت أدائي المنفرد.
يدي تتحرّك ببطء وسرعان ما تنزلق على الجلد الأملس الناعم كصخرة تهوي في أحشاء العدم. الآن.. بحوزتي أير لكلّ يد، أدعك كلاهما وأمرّر لساني على الخصيتين وفي كلّ مرّة يجذبني أحدهما باتّجاهه، يضمّني بحنان فأباغته بعضّةٍ تزيد من تدفّق الدم في الوتد المنتصب بين أصابعي. كمجنون يدور حول نفسه أو كصوفي مسّه ولع، كنت أحوم برأسي ذات اليمين وذات الشمال بانتظام آليّ وحركات مدروسة لكي لا أبخس أيّ أيرٍ حقّه ونصيبه من المصّ.. على ركبتيّ، كالمتوسّل لآلهة لن تأتي، كنت مصلوبا على حبال اللّذة ولا خلاص لي سوى أذرع صلبة ومصقولة كأنّها ابداع نحات ايطاليّ. مع ارتفاع وتيرة المصّ وتصلّب العضلات وانفجار الدم في الشرايين، بدأت عمليّة دكّ الحصون والصراع على المؤخّرة.. نعم الصراع هنا على المؤخّرة ولتذهب المقدّمة الى الجحيم.
***
كآلةٍ بالية من القرن الماضي، كنا كقطع اللِّيغُو: زبّ للفم وزبّ للمؤخّرة وأنا حلقة الوصل بينهما. تهدهد نسمات خفيفة الستائر المسدلة فيشقّ العتمة ضوء خافت وتظهر الحلمات جمرات مشتعلة تنتظر لسانا يطفئ نيرانها.. إحساس غريب ينتاب المرء لحظة الإيلاج يحسّ أنّه أصبح شخصين تماهى مع جسد آخر وغرف من قاع اللّذة التي تزداد مع تزايد حركات الرّهز من الخلف والمصّ من الأمام.. يبدو انني ذبت في بحر من القداسة وأنا بين هذين الإلاهيين. وكقائد أوركسترا يحترم فنّه وخبرته في تسيير العازفين، أقلب الأدوار وأمسك بزمام الأمور لأسرّع من وتيرة العزف سعيا لاختراق الخلايا القابعة في أقاصي الزوايا المظلمة من الروح.
ترتطم العتمة بأجسادنا فتتجلى خيوط العرق محتشمة من بعيد. كنا كلوحة زيتيّة.. حلم رسام مقطوع الأصابع لفظ أنفاسه الأخيرة مع آخر شهقات الارتخاء التي ملأت الفضاء.
***
مازلت في الوسط، لكنّ الأنفاس هدأت والفراش مبلّل بالعرق والمنيّ.
اخترق صوت السكون “أتعلمان؟ المني منّة من السماء، كنز ثمين وعلى المرء ان يتصدّق بجزء من كنزه لكي يشعر بقيمة ما يملك..”
قاطعته ورائحة المني تسدّ أنفاسي والشهوة مازالت قابعة في ثنايا حلقي: “لذلك تحرص على أن ينفجر منيّك في وجوهنا، لا تريد أن تحرمنا من كرمك.”
فأجاب الثالث وقد كانت نبرته جادّة وانتصب واقفا بأداء مسرحيّ: “ما النيك؟ أنا أجيبكم.. النيك هو اللّه.. النيك هو خالق كلّ شيء.. هذا العالم قوامه النيك فقد بدأ بروحين خاويتين من المعنى، أُلقيت فيهما شهوة فخرّا ساجدين..”
قاطعتُ هذيانه متعمّداً وصحت بصوت ارتجّت له أرجاء الغرفة وغطّى على صوت الموسيقى: “والشيطان أبى واستكبر ورفض السجود.. لعنة النيك عليه..”
***
عدنا لنستلقي على الفراش ونحدّق في السقف.. كنا ثالوثاً يُمسك (أو يحاول أن يمسك) تلابيب الخواء..