يمكن إدانة اللحم دومًا / ياسر السعدي

| ياسر السعدي |

| اللوحة: جوني سمعان |

قال لي موظفُ دائرةِ العمل :

لا أحد يريدُ أن يكون عاطلاً عن العمل أليس كذلك ؟

أجبتهُ بلغتي الألمانية السيئة السفلى :

نعم لا أحد يريد أن يكون في الأسفل .

قال لي العقيد ,قائدُ الكتيبةِ عندما خدمت الوطن عسكرياً :

لا أحد يريدُ أن لا يقال عنهُ جبّان و الإجازاتُ الآن ممنوعة .

وضعتُ ألفيّ ليرةٍ سوريةٍ , كنت أحملها بقوةٍ في يدي كما لاحظ العقيدُ منذ البداية ,وضعتها على الرّفِ السفلي لطاولةِ شُربِ المتّةِ و قراءةِ جداولِ العسكر و قلت :

نعم لا أحد يريد أن يكون “تحت بالبلد بس عندي ظروف” .

لا أحد يريد أن يكون في الأسفل و لا أحد يريد أن يكون هناك أسفل فالأسفلُ هاويةٌ لا تنام ,الأسفلُ مرهقٌ يقول من هم في المنتصف ,يموت من هم في الأسفل أكثر و يمرضون أكثر و يجلبون أطفالاً أكثر و يدخلون السّجون و المصّحاتِ العقليةِ أكثر ,هم من يبذرون الجهد الجماعي فعلاً .

أسفلُ الجسدِ مدعاةٌ للخزي ,يتعلمُ الأطفالُ ضرورةَ ارتداء الملابسِ الداخلية كضرورةِ المراحيض و هذا يعني نضجاً اجتماعيا قد وصلوا إليهِ حقاً .

يسعون من هم في المنتصف جهدهم بأن لا يكونوا أسفلاً, فهُم على أكتافهم يتحملون عبئهُ و هم معرّضون للوقوع فيه دوماً, هؤلاءِ هُمُ الصّوتُ لمن هو في الأعلى عند إدانتهم للأسفلين أو عند ثوراتهم التي يوقعها لهم أعلّونَ آخرون ,من هم في الأعلى لا يكترثون لصّخبِ المنتصفاتِ و معاركها ,هذياناتها و كراهياتها ,يتفرجون على انتفاضات المهووسين بالعدالةِ و الإنسانيةِ و عالمٍ إنسانيّ فريد,أملٌ بغدٍّ يكفلُ السّلام للجميع ,خطابُ المصيرِ الجماعي يغوي الجميع ,يُبعدُ الجميع عن بؤسِ مصيرِ أحدهم تلو الآخر, المصيرُ الإنساني مهيبٌ عظيمٌ يستحقُ الاهتمام ,مصيرُ الجميعِ معاً دُفعةً واحدةً مُثيرٌ حقاً , عدالةٌ للجميعِ كم هو منعشٌ صراخُ ذلك .

منتخبو أحزابِ اليمين عموماً لا يريدون إرتفاعاً في الطبقةِ السفلى و منهم من لا يريدون منافسين على الإعاناتِ الاجتماعية ,اللاجئون منافسون شرسون بطبيعةِ الحال ,الضّرائبُ لا تكترثُ بكثرةِ المساجدِ و لا تكترثُ بالختّانِ و الحجاب , ليست معنيّةً بالثرثرة.

يتعاطون مهدئاتٍ ورقيةٍ لتخفيفِ الكآبةِ و قلقِ الحوافِ يرفعون ليقولوا لا ,ليقولوا لا فقط ,ليكونوا قائلينَ فقط ,قد يُصيبون و يغيّرون مصيرهم الجمّاعي فهذا قد حدث و لا يحدثُ في مراتٍ أخرى ,سيأتي كما في البداية من هُمُ الأعلى أو شركاءٌ لهم كانوا ينتظرون في “أعلى” آخر,سيكتبون ولا يقولون فقط ,من هم في الأعلى يموتون أيضاً و في مراتٍ كثيرةٍ لا يُذكرونَ أبداً ,من هم من هو ليس معنيّاً في كتابةِ أيّ سخرية .

الكراهياتُ مجانيّة , أكره أحداً ما لا يهمُ إذا كان في الأعلى أو المنتصفِ أو الأسفل فالكراهياتُ مجانيّة و المصائرُ جماعية ,لا يكفون عن كتابةِ ذلك و لا يمكن وقفُ قول ذلك أيضاً .

عدا ذلك هو هرطقةٌ أنانيّةٌ طفوليةٌ كسولةٌ ليس مرحباً بها في عالم الجهد الجماعي ,الإنتاجُ البشري العظيم .

الرّماديون بلا شفقة بل هم علةُ المُصيبةِ يقولُ عسكرُ الطُغاةِ و ثوارُ السّاحات ,مقاطعةُ الانتخابات تجلبُ اليمين دوماً على الكلّ أن ينتخب ,مقاطعةُ الاستفتاءاتِ تعني عوراً في رؤيةِ أهميةِ المصائرِ الجماعية ,على الكلّ أن يكون إنسانياً على الأقلّ تجاه كُتبِ التاريخ .

لم يعلم “كافكا” أن الحشراتِ لا تأبهُ بأمهاتها و أن مفهوم المسخِ هو إدانةٌ و إهانهٌ متعاليةٌ على ما يجمعُ الإنسان بالحيوان ,بالحشراتِ و الأشجار ,كما ظنّ “نيتشه” يوماً بأن الشّفقةَ مسيحيةٌ لاهوتيةٌ تجعل الفرد حقيراً خاضعاً .

الأوكسيتوسين ليس لهُ غددٌ لتلفظهُ خارجها عند الحشرات أو في أجسادِ الآلهةِ ,هرمونُ ثديياتٍ فقط.

قد تحول الشفقةُ الكراهية لتكون مجانيّةً تجاهِ أي آخرٍ كان و لتجعل العطف مجانيّاً تجاه أي شبيهٍ كان ,العناقُ هو ما يريدهُ الأوكسيتوسين ,العناقُ يستجلبُ التقمّص العاطفي ,الشّفقةُ تجعلُ للعنةِ النّطقِ مأوى للشّعر و ذلك ما أطال طفولتنا لتحتجز الحزن فينفجرُ في لحظةِ شفقةٍ على أحدهم .

إنتاجُ إنسانٍ أعلى في المختبرِ ما زال جارياً ,إنتاجُ إنسانٍ أدنى من حيوانيتهِ ما زال جارياً في كل إعلاناتِ الطّرق و صفحاتِ الدساتيرِ و كتب الله و الأشباحِ الكبرى ,الإدانةُ ما زالت مستمرةً على أيّ حال ,”الله” يدّينُ تشوهاتِ الغريزة ,”فوكو” يُدّين تشوهاتِ السّلطة ,مجلة “بلاي بوي” تُدّين كل الأجساد ,”الخلاصُ” يُدّين الكسالى ,”اللغةُ” إدانة .

الإنسان, كلمةٌ تُثيرُ إدانةَ ما بعد الحداثيين كما كانت تُثيرُ إدانةً القساوسةِ ,الفرديةُ إدانةٌ كأي إدانةٍ يُطلقها أحد الداعيين للشعور الجماعي كبوصلةٍ للأفراد .

الكراهيةُ مجانيّة ,الإدانةُ كذلك ,ما تقولهُ إدانة ,كل التعاريفِ إدانة ,الشفقةُ و اللامبالاةُ والاكتئاب والانتحار والميولُ الإيجابيةُ لفعلِ أشياءٍ صبّاحيةٍ أيضاً .

الثديُ الممتلئُ إدانةٌ لمن لا تملكهُ ,القضيبُ الأطولُ إدانةٌ لمن لا يملكه ,للجسدِ معاييرٌ كما يقولُ العشاقُ في كل أنواعِ الغزل ,التشوهاتُ الخلقيةُ تستوجبُ العمل الجراحي أو إدانةَ حاملها لنفسهِ هو ذنبُ نفسهِ ببساطه و علينا جميعاً إيجادُ الذنوبِ وإدانتها ,الجميع فعل ذلك وأنا أفعلهُ أيضاً ,إدانةُ النفسِ دليلُ النجاح و طريقه.

الإنتاجيةُ إدانةٌ كالفقرِ ودونالد ترامب .

سحقاً للجميع ,الشفقةُ واللامبالاة يجبُ تنظيمهما ضمن محاورِ الإدانةِ والذنب ,الطفولةُ الطويلةُ مهدت كل المعابرِ الهرمونيةِ للصورِ الفوتوغرافيةِ التي يستوجبُ حضورها في “السّيرةِ الذّاتيةِ” عند التقديمِ على أي عمل .

السببيةُ لا تحتاجها التربةُ لحضنِ جثةٍ تتفسخُ أو شجرةٍ تنمو ,ليست معنيةً بالثرثرة .

النهايةُ تُحتّمُ البداية ,وفاةُ أحدٍ في العائلةِ ,تُحتّمُ الجنازة , الجنازةُ نهايةُ احتمال تلقيحٍ ناجحٍ رحلت تأوهاتُ صانعيهِ أو عدمها إلى مكانٍ ما عبر آليةٍ ما في أدمغةٍ ما ,بين الجنازةِ والولادةِ تحدثُ رحلةُ تأوهات ,ذهابٌ وإياب ,ذهابٌ و إياب و الانتظار بين هتين النقطتين يستجلبُ مسائل الإيمان, مسائلٌ يقودها ما يأتي و ما يذهب ,تختلفُ العصاراتُ الإدراكيةُ ,قد تعلو و تهبط ,اختلاف السياقاتِ والأدمغةِ حوادثٌ تجلبُ النهايات .

الانتظار أجدى من يقينِ الغياب ,بكاءُ الطفلِ في إنتظارِ أمهِ يجعلها تأتي لو اعتقد الطفلُ أن بكاءهُ لن يجلبِ أحد ,لن يجعل لإنتظارهِ عملاً يقومُ به لما بكى و لما انتظر ,تظهرُ أشياءٌ و تختفي أخرى بين ذلك و ذاك جسرٌ معلق ,لابد من يقين الحضور ,الحضورُ مُذهل و الغيابُ يعني عتمةً ,شحوباً ,أرقاً و إدماناً و عوزاً ,التّوقعُ شرطٌ إدراكي يرجحُ احتمالات معينة ,نضجُ الذّاكرةِ يعني لقاحها باحتمالات أكثر وتنبؤها بما يخفي كل حضورٍ من غيابٍ أكثر .

إدمانُ المكافأةِ -تأوهاتِ القطِ عند إلتهام فأر- تجعلُ بكاءِ الأطفالِ ناضجاً ليتحول إلى انتظار غيابٍ مُفرح أكثر من مجيءِ الأم لإرضاعهم ,ذلك النضوجُ يحوّلُ البكاءِ إلى كلماتٍ وأفعالٍ و إنتاجٍ و بؤسٍ و مرضٍ و آلاتٍ و رقصٍ و نحتٍ و مختبراتٍ وانتخابات و حروب ,استعراض يسخرُ من كُتّابهِ حتى يناموا أو يغنوا من جديد .

الحربُ تُعنى بالفضيحة ,الحضورُ يصبحُ غياباً و الغيابُ يصبحُ حضوراً ,الحربُ فضيحةُ بكاءٍ وطاعونُ انتظار .

الحربُ احتمال كالجنّازةِ والولادة ,ليس هناك صُدف ,ليس هناك انتظام ,ليس هناك فوضى ,تشوشٌ فقط و عددٌ لا منتهي من مسائلِ الإيمانِ لفضِّ الاشتباك .

الكلماتُ تخلقُ الوحدة وتنجزُ الموت ,تحثُّ على الإيمانِ و تأكلُ لتأكلَ فقط .

للجميع خرافات ,الجميعُ لحمٌ و دم ,للجميعِ إداناتٌ و النضجُ ضرورةٌ نفسيةٌ واجتماعية .