بقايا أبي/ ياسر السعدي

|ياسر السعدي|

مُنذُ شهورٍ لم يزرني أبي,منذُ سنينٍ رحل تاركاً كل ثيابهِ ,بقاياهُ القُماشيةُ جعلتني انهمر بُكاءً ,لم يكنّ هو سببُ بكائي حينها ,بل ما تبقى من حضورهِ ,أشباحُ حضورهِ أبكتني يومها,استيقظتُ ورأيتهُ في وجهي اليوم ,المرآةُ صليبُ الآباءِ و الأبناء, بقاياهُ المنّويةُ ما زالت عالقةً في وجهي ,أنفهُ و جبهتهُ ,لن أترك نُدباتي لأحدٍ آخر يحملها كما فعلت,أعدُّكَ يا أبي لن أفعلها ,لن أنثر بقايا من جسدي في أجسادٍ أخرى لا تملكُ أشباحاً بعد ليُعجبها ذلك أو لا.

أخي الأصغر في السّويد تم تحويلهُ البارحةُ لمصحٍ نفسيّ ,ربما اللّون الرّمادي الكثيفُ في سماء الشّمال تحالف مع اللّون الأصفر المُغبّرِ في سماءِ الجنوب ليقود أخي إلى ذلك المكان ,أرقنّي ذلك فمنذُ مدّةٍ زُرتُ أحد أصدقائي في مصحٍ نفسي في برلين و كان الأمرُ ثقيلاً حينها,نبّهتني زيارةُ أبي  أن أرسل رسالةً لأصغر إخوتي في سوريا ,استحالت محاولةُ تهريبهِ إلى تركيا فألتحق بخدمةِ العسكرِ في صفوفِ الجلادِ الأول في البلاد ,أردت أن أطمئن عليه بعد زيارة أبي لنا نحن الثلاثة معاً .

على حافةٍ ما كنّا نقف , كل شيء معتّمٌ مشوشٌ جداً, لكن شعور الحافة كان يجعل وضوحها قابلاً ليُذكر , كعادتهِ في زياراتهِ المتقطعةِ ليّ منذ سبع سنوات ,لا ينطقُ أبي حرفاً واحداً,وجههُ لا يبدي أي تعبيرٍ ليجعل لزياراتهِ اللاحقة شوقاً ما ,في كل مرةٍ يزورني ,أتمنى أن لا يعود أبداً ,أحملُ بقاياهُ ما زلت و أظن أن هذا الثقلَ كافٍ .

كان على جبينيهِ ثقبٌ أسود ,كان يحاول أن يقترب من وجه أخي الذي ما زال عالقاً في سوريا ,كان يرقصُ حولنا ربما , كان حولنا بطريقةٍ ما ,لكن إقترابهُ بهذه الطريقة من بقاياهُ العالقةُ في أرضِ قبرهِ جعلني أفكر فوراً بأن أتواصل مع أخي هناك ,علي أن أخبر أميّ و أختي بأن أخي في السّويد ,يحتاجُ أخي أن يبقى هناك شهراً أو شهرين في ذاك المصّح ,هذا ما أخبرني به البارحةُ في مكالمةٍ استمرت دقيقتين و أوصّاني بأن أطمئن أمي و أختي عليه و أنه بصحةٍ جيدة ,لن أتصل اليوم بهم ,أوصاني أبي بأخي الأصغرِ في سوريا, اليوم سأتبع وصيته تلك , أرسلتُ رسالةً أسألهُ فيها عن حالهِ لأن اقتراب أبي ذو الثقبِ الأسود في جبينيهِ منهُ يجعلنّي أؤمنُ رغم كفري بنبؤاتِ الحُلم  , أتبعتُ وصيتهُ ,فلم أفعل لهُ وصيّةً من قبل .

زارني أبي ليُجعل كل بقاياهُ تبحثُ عن بعضها بطريقةٍ أو بأخرى ,سعالهُ الصّباحيُ المطولُ ميزةٌ بدأت رئتيَّ بحملها للسّنواتِ القادمةِ كما أظنّ و كما يظنُّ طبيبي إذا لم أقلل من سُمِّ السّعال ,كان أبي ينتحرُ في آخرِ أيامهِ مُصّراً على تدخين سيجارتين متتاليتين بعد العشاء ,أخبرهُ طبيبهُ أنه يجبُ أن يُقلعَ  فوراً عن التّدخين بعد تخريجهِ من المشفى ,رميُ أمي لعُلبِ السّجائرِ لم يفلح بل جعلهما في ضيقٍ عجّل سيجارتيه بعد آخرِ عشاء .

كم هو ساذجٌ أن أكرر كل ما فعلهُ بجسدٍ مغايرٍ عن جسدهِ و بذّاكرةٍ هو جزءٌ منها ,سعالهُ و دخانهُ ,تكرارتٌ كافيةٌ ليزورني وحدي بعد سبعِ سنينٍ من دفنه تحت تُربةٍ مُبتلةٍ بمطر شُباط , اليوم هو عيدُ ميلادهِ الخامسُ و الخمسين ,صُدفةٌ مُخيفةٌ ,نبؤةٌ لم يرصدها ساحر ,لكن البقايا لا تُفرقُ بين الأيامِ و السّنين ليست مرتهُ الأولى لكنني أتمنى أن تكون الأخيرة ,إرثُ سعالهِ و دخانهِ أحملهُ بكل سذاجةٍ دون انقطاع .

أبي الذي كان يُحبُ هتلر كملايين العرب و المسلمين لم يكنّ يعلمُ أن أحد بقاياهُ ستكون في أرضٍ لعنها إسمُ ذلك الرّجلِ ,فلتعلم يا أبي أن أطفال هتلر أخيراً وصلوا إلى البرلمانِ الألماني ,زيارتك هذه كان لها توقيتٌ خاص ,فهم الحزبُ الثاني بعد الحزبِ الأولِ الذي يدّعي أنهُ حزبين ,في ألمانيا كما في أميركا كما يعلمُ الجميعُ هناك حزبٌ واحدٌ يعملُ في الإنتخاباتِ بإسمينِ مختلفين ,ترتيبُ أطفالِ هتلر المُتقدمُ هذا العام كان على رقابنا يا أبي ,كان على رقاب اللاجئين و ثقافتهم , إقامتي في المانيا المنتهيةُ في العام القادم تنصُ على صفتي كلاجئ هنا .

“الآخرون القادمون قبيحون جداً و علينا أن نعلم كم نحنُ جميلون و كاملون و كم بإمكاننا أن نفتخر بأنفسنا فنحن الألمان “.

فلتعلم يا أبي أن أرض قبرك الآن يلّوحُ فيها اسمُ منتصرٍ واحد ,أول البادئين سيكون آخر الرّابحين ,ربما أبي كان يقترب من أخي الأصغرِ الذي ما زال في أرضِ قبرهِ ,لأنهُ الأجدرُ بيننا بحمل بقاياه ,أنا و أخي في السّويد مهزومون بشدّةٍ في بلادٍ ما زال الكثيرُ من البيضِ فيها يظنّون أن لونهم يعني تفوّقاً شبحيّاً فريد .

خريفُ برلين هذا العام لم يكنّ كذلك منذُ إثنينِ و سبعين عاماً و إثنين و عشرين يوماً ,منذ سقوط هتلر لم تُعلن تصفيةُ صناديقِ “الاقتراع” عن اعتلاء أحدٍ ينتمي لحزبٍ يميني يعادي علانيةً أي وجود ثقافي غير ألماني , لمقعدٍ برلماني في بلدٍ مزقها اسم هتلر الذي كنت مُعجبّاً به يا أبي لأنهُ قتل الملايين من أعداءِ أُمتنا الخالدة ,في مدارس الرّسالةِ الخالدة كانوا يكذّبون الهولوكوست لكن أبي كان يعجبهُ وجودُ غربيٍّ ما في التّاريخ حرّق ملاييناً من اليهود بسنواتٍ فقط ,أتذّكرُ جيّداً أنك قلت ليّ أن الخدمة العسكرية مصنعٌ للرّجال ,فقدت هناك الكثير يا أبي في مصنعك ,مصنعُ الرّشوةِ والقصفُ العشوائيُ لكل مكانٍ يرفعُ رايةً أخرى غير رايةِ جيشِ مصنعِ الرّجال يا أبي , قصفوا منزلنا أتمنى أن تعلم ذلك ,كم كنت مُصّراً يومها أن أخدم في الجيش ,كم كنت سعيداً أنك مُت قبل أن تراني أحققُ أمنيتكَ بأن أكون رجلاً بثوبٍ مموهٍ يحتفي بصورِ القائدِ الخالد ,كل شيءٍ خالدٌ هناك يا أبي ,كل شيءٍ ميتٌ هناك مثلك الآن .

مُت هارباً قبل أول مُظاهرةٍ في البلاد ,أرجوك لا تَعُد أبداً إلى يقظات  خوائي ,إلى كثافاتِ نومي , لم يُجب أخي الأصغرُ بعد على أي رسالة أرسلتها , أتمنى لك  يا أبي مطراً سعيداً في هذا الشّتاء ,بقاياك هنا في أرضِ لعنةِ هتلر لا تحتفلُ بمجيئك ,لا تَعُد أبداً ,لا تَعُد.