نهاية الثقب / أمل سيرين شيحة
| أمل سيرين شيحة|
دلفت إلى الغرفة محملة ببقايا عطر رجالي على ثوبها، و بعض الندبات العالقة في ظهرها منذ الازل. جالت في الرقعة الصغيرة كمن يبحث عن نفسه في الفراغ، تدور حولها، تحاصر ظلها دون أن تلمسه.. تقبل الضباب الذي يلعق بصرها و يصور لها الدنيا على شكل فاجعة كبرى لا تلمحها العين المجردة.. تقبل غبارا يفرزه الضوء و تفتح صدرها كي يمر بعضه الى روتينها المتصدئ.. اخذت تنظر الى جسدها في المرآة بخجل سفاح يسترق النظر إلى الله، يعلم انه مذنب و مع ذلك يستهويه اكتشاف ما تحوي هذه السماء.. تنظر بعناية و حزن.. ترهل صدرها، تلك الحمالة صارت تثقله و لا يسعها حمله، نزعتها فسقط المال ارضا، داست عليه بعنف ثم استلقت.. ارادت ان تبكي لكن الدموع أبت.. فركت جفنها، ضربت خدها، استعدت لمراسم النحيب بلا جدوى.. كل شيء لا يستجيب.. هذا الكون يشهد على بؤسها و تعبها كما يشهد السرير على عمليات بيع و شراء جثتها المنهكة.. هذا السرير يشهد كم جلادا مر من هنا و لم تتمرد عليه، كم جلادا اعاد ايلاج سوطه داخلها عابرا كل كيانها، زارعا داخل رحمها رصاصا وعبوات ناسفة تغتال جنينها المشتهى.. هي كذلك تريد أن تكون أما كي لا تشبه امها.. كي تكسر الوحدة و تعتزل العهر.. فالعابرون من هنا رحلوا بعد عشر دقائق من المضاجعة و لم يعودوا.. استحالت لاجئة بعد ان كانت وطنا يحتضن رؤوس المنهكين و يلبي شهواتهم السخية. . هي ليست سورية، لكنها مهجرة.. مهجرة جدا. . مطرودة و هاربة من وطن لم تنتمي يوما إليه و لا يعترف بها، فما فائدة الوطن و الانتماء اذا كانت لا تنتمي حتى الى ذاتها.. و ما معنى ان تعنى بالسياسة و الاقتصاد في حين تمارس اقتصادها سرا داخل هذه الغرفة، و لم تتجاوز علاقتها بالسياسة سوى بعض رجال الدولة الذين يقصدون جسدها خلسة و يطالبونها بالسرية المطلقة..ما لزوم الثورة اذا كانت لا تثور حتى على ما تعيش..هي لم تكن يوما كائنا اجتماعيا، و لم يجمعها بالبشر حوارا عدى : كم معك؟ متى موعدنا القادم؟.. لم يتجاوز رابطها بالعالم اكثر من خوض الزحام في سوق الخضار او حمام النسوة الجماعي و الحلاقة..
نهضت مسرعة تصب زجاجة الويسكي في حلقها و تتذوق طعمها الممزوج بسائل ذكوري بقي في لعابها، فتبصق للمرة الالف على المرآة و تتوعد بالا تعود إلى القرف.. لكن الامر اضحى ادمانا لا مفر منه، كما ان اللاعودة اضحت من المحال.. هذا الادمان فتاكا، يضرب كل الأعضاء بلا شفقة حتى تموت.. تحبسه داخل دمها و تعيشه كما يعيش الصراخ بين اضلعها
سجين لا يتجرأ على الفرار.. اجل.. هي لا تتجرأ.. لا تتجرأ على قتل رجل يمارس تعاليم السادية على جسدها النحيل، لا تتجرأ على صفع رجل يذكر اسم امرأة اخرى وهو يضاجعها، لا تتجرأ على شتم رجل يدفع لها المبلغ ناقصا متحججا بالقروض، لا تتجرأ على الوشاية ببوليس الآداب الذي يغتصبها كي لا يبلغ عنها.. لا تتجرأ حتى على اغلاق باب بيتها كي لا يدخله مزيدا من الفجور.. لا تذكر متى آخر مرة رفضت فيها العمل، لكنها تذكر جيدا انها لم تشعر يوما برعشة مدوية و بغموض اللذة و لم يراودها الشبق، حتى انها فضلت الاستنماء وحيدة، مزيحة عن مخيلتها كل الرجال، حالمة بالنصر البعيد، بالنصر على فكرة الجسد المأجور.. وحده النصر يثيرها و يمطرها رغبة حتى يفيض الشبق مبللا كل جسدها..وحين ابتعد النصر حلمت باعتلاء القمم، حلمت بالسماء، حيث تكون روحا بيضاء بلا جسد مستهلك، هناك، في الافق لن يكون البغاء حرفتها، فقد احترفت الهزيمة على الارض حتى صارت الهة تعمر السماء.. وحدها الهزيمة تجعلنا مقدسين.. في السماء، لن تكون مجرد ثقب مسبق الدفع يسده المقرفون و خصر راقص ينتشي بتمايله السكارى و ‘المحششين’.. لن يضطر احدهم الى غصبها على شيء لا تريده.. هناك، على هامش الحياة، ستعانق الطهر و تغتسل بدماء من سفكوا دم قلبها على مر السنين.. لن ينفجر في وجهها اي سائل سوى سائل الموت.. اخذت سكينا قريبا منها.. تراودها الان افكار مجنونة، تخترقها رغبات جامحة في خلع ملابسها و زرع السكين في كل موضع.. كان بودها منذ زمن ان تقطع نهدها لا خوفا من السرطان بل للتخلي عن مقومات الانوثة التي ترهقها..بودها ايضا ان تثقب فخذيها الذين عبث بينهما الذئاب.. بودها ان تدخل السكين في بطنها و تتذوق طعم الدم الذي حمل الأسى لثلاث عقود.. بودها ان تحرق شعرها كي تختفي بصمات الذئاب.. ان ترسم فراشة بالسكين على زندها علها تطير و تخفيها عن الكون المرعب.. ان تحلق فوق كل الرجال و تتبول عليهم واحدا تلو الآخر.. لكنها اكتفت بماء ساخن، غرقت داخله مغمضة العينين، صامدة كما كانت دوما، رافعة رأسها نحو الرب لتغرس السكين في يدها بعد ان كتبت على ورقة وضعتها فوق المرحاض : ايها الرب، اذا كان في الجنة رجال فدع جسدي يحترق وحيدا و على مهل..