بر بحر: شريط لم يبدأ ولن ينتهي / تمارا ناصر

| تمارا ناصر|

سأحاول الالتزام بالقدر المناسب من “الأدب” و”التّهذيب” في كتابة هذه السطور، رغم ان مضامين وسياسة  فيلم “بر بحر” المشاكسة، تدعو الى غير ذلك. سأحاول، لكني لا اقطع بأية وعود. فكتابتي كما الفيلم، مشاكسة ايضا.

في الحقيقة، لم اكن انوي التوقف عند هذا الفيلم، وسأقول لكم السبب بصراحة خالصة- لم اجد في الفيلم “بر بحر” تحديات تشدّني بصريا ولا فنيّا، ولم يكن ليحرّك بداخلي الكثير لولا وجود ذلك الحماس الأولي لرؤية أصدقاء ومعارف لي، يتجسدون في أدوار مختلفة امام الشاشة. سأقول سريعا بأن الفيلم في شخصياته وأحداثه كان، بالنسبة لي، في غاية الكاريكاتيرية والسكِتشية. ولا حكم في هذا طبعا، طالما ان المخرج\ة تأخذ على هذا الاسلوب قدرا ما من المسؤولية. أي انه يجب مقابل “إهمال” بلورة وتطوير شخصيات واحداث الفيلم(عمدا)، توفير رؤية بصرية فنية وجمالية ناضجة، وغير متعلقة في الجوانب الخاصة في الحبكة والسرد. وهذا أمر من الصعب للغاية تحقيقه. ولست متأكدة فيما اذا نجحت في ذلك ميسلون حمود، في فيلمها الروائي الأول. وعلى الرغم من رأيي هذا، ما حدث لاحقا، أي بعد انتهاء الفيلم والخروج من الصالة المعتمة، ثم القاء النظرعلى من حولي والى ما هو أبعد من تجربة مشاهدتي الشخصية والفردية، اجبرني على اعادة التفكير (والنظر).

يراودني شعور بأن “بر بحر” شريط لا ينتهي. وانه وبعد “نزوله” الى صالات السينما الاسرائيلية (او قبل ذلك)، فقد خسر تخومه. وما أقصده هو انّي بت لا أعرف متى يبدأ الشريط وأين ينتهي. فلقد أُعلن قبل عدة شهور ومنذ السنة الماضية عن تجوال الفيلم في المهرجانات السينمائية خارج البلاد، ثم جاءت “عودته” صاخبة الى البلاد وتم عرضه في مهرجان حيفا، ثم اتت المقابلات الصحفية والتلفزيونية والاذاعية، مع المخرجة والممثلات، والحديث حوله وعنه. ومع حلول السنة الجديدة-2017- وصل الفيلم الى الصالات الاسرائيلية التجارية، فتجددت المقابلات، وعمّ الصخب. بالاضافة للمسيرة الكشفية لبوستر(ملصق) الفيلم الذي يجول البلاد معلقا على باصات “إيجد”.

ما اقصده وبكلمات اخرى، ان لـ”بر بحر” إمتداد لا يبدأ ولا ينتهي عند المشاهدة البصرية فقط، بل ما يحدث اليوم هو أكثر من ذلك، بات للشريط نفسه اهمية هامشية، فأصبح نسخة عن نفسه، بينما اصبح الخطاب الدائر حوله هو الشريط المركزي والأصلي. لدرجة انني صرت اشكك في صحّة ذاكرتي، فصرت اتساءل وفي اعقاب الخلط، التشويش والبلبلة، هل هذا ما حصل ضمن حدود الشريط ام خارجه؟ ففي احد البرامج التلفزيونية العربية، قامت المقدمة بتقديم شخصيات الفيلم على انهن فلسطينيات مسيحيات يسكنّ سوية في تل ابيب. لكن من شاهد الفيلم يعرف ان هناك شخصية نور، المسلمة والمحجبة، وليلى غير معرفة الديانة. في برنامج اسرائيلي آخر، يقوم المقدم بوصف شخصية الممثلة “شادن قنبورة” بالمحجبة من أم الفحم، بالامرأة المتدينة والتي تمر خلال الفيلم “سيرورة تحرر” بعد وصولها الى الشقة المشتركة في تل ابيب. مثير ما يحصل في هذا الشريط المؤلف من سجالات وتعليقات وبيانات اجتماعية وسياسية وتصريحات طائفية وميسوجينية واستشراقية وعنصرية (منها الواعية والمقصودة ومنها المبطنة وغير الواعية).

تجدر الاشارة هنا إلى ان شخصية نور، في نظري، لم تمر اية سيرورة “تحررية” (بالمفهوم الليبرالي) عند وصولها الى تل ابيب، فيُصورها الفيلم منذ البداية كشخصية ذات فضول وانفتاح- بمفهوم القدرة على تقبل الاخر المختلف (ففي احدى المشاهد الاولى، تجد نور في شقة ليلى وسلمى دمية ذات قضيب كبير، فلا تذعر ولا تهرب بل تضحك وتواصل بطبيعية ترتيب الغرفة). وكما يقول الاب ردا على خطيبها في نهاية الفيلم “بنتي ما تغيّرتش، انت الي تغيّرت” وهذا خلافا لما يطرحه المقدم الاسرائيلي، فتل ابيب لم “تُغيّر” او “تُحرر” نور.

كما ان المقابلات والظهور المتلهف للمخرجة وتصريحاتها الكثيرة والمختلفة حول الفيلم، تدفع بحدود الشريط نحو المزيد من التوسع. ففي احدى المقابلات تقول حمود أن فيلمها يقوم بتمثيل جيل فلسطيني جديد، وفي حديث اخر تقول ان للفيلم رسالة اجتماعية وسياسية بتناوله جميع تابوهات المجتمع. هذه تصريحات كبيرة وجدية، ولا اعتقد ان اي عمل سينمائي او فني بمقدوره تحقيق هذه التوقعات، ومن المفضل ألا يفعل ذلك. التواضع كلمة مفتاحية هنا.

ولكنني لا ألوم أحد على هذا اللغط. فالكثير منا اعتاد مغادرة بلداننا العربية والذهاب الى المدينة اليهودية المجاورة للاستمتاع بليلة سينمائية في صالة معتمة، تأخذنا الى عوالم بعيدة. فيرتفع الحاجز بين الواقع والخيال، ويصبح الفصل ضرورة، فما يحصل عادة عند مشاهدة الافلام هو اننا نسمح لأنفسنا تصديقها او على الاقل نؤجل عدم تصديقنا لها (suspension of disbelief). لكن في شعوري انه ما يحصل الان في واقعنا المشوّه والمركّب هو ان هذا الفصل بين ما هو واقع وما ليس واقع (او خيال) يبدأ عند لحظة مغادرة بلداتنا العربية (وحتى قبلها)، ودخولنا الى منطقة خارجة عن نطاق واقعنا (قد تبدو جزءا منه للوهلة الاولى). نذهب الى صالات السينما الاسرائيلية عادة، ونشاهد شخصيات “غريبة” وبعيدة عنا وعلى قدر من المسافة الكافية لكي نسمح لها بالعيش فينا. حدثتني صديقتي قصة مشاهدتها لـ”بر بحر” في احدى الصالات في حيفا، حيث قام بعض الشباب من مقاعدهم ليهتفوا ان “شباب ام الفحم اشرف الناس” وشعارات جوفاء اخرى ثم غادروا القاعة. وبصدق، انا لا الومهم. فتجربة انصهار حاجز الفصل بين “الواقع” و”الخيال” صاعقة ومؤلمة للغاية.

 لا يقع اللوم على احد منّا طبعا. بل ما يؤسفني هو هذا الواقع الذي نعيش فيه. يؤلمني انه  سلبت منّا، كجماعة فلسطينية، سيرورة تاريخية طبيعية مع التجربة السينمائية.  ذكرني ما حصل مع هؤلاء الشباب باللحظات الاولى لولادة ونشأة السينما، عندما كان يصعب على الناس تمييز المسرح عن السينما، لاعتقادهم ان خلف الشاشة يتواجد اشخاص من لحم ودم، وليس اشعة ضوئية فقط. اضافة الى ذلك، فعند مشاهدتنا لانفسنا وسط جمهور يهودي اسرائيلي وفي صالات اسرائيلية، تكون مشاهدتنا للشريط اقرب الى المشاهدة البرانويدية((paranoid. فنتساءل باستمرار كيف ينظرون الينا؟ ماذا يتهامسون عنا الان؟ فالعين الاسرائيلية تراقب، وهي عين اقل ما يمكن القول عنها اننا لا نثق بما تراه ابدا. فيقوم شبابنا بسحب الدروع، استعدادا للدفاع عن انفسهم من هذا الهجوم المتخيل والحقيقي في ان.

كما يؤسفني واقع تضطر فيه السينما الى تبرير نفسها والاعتذار باستمرار لفلان وعلان. ما الذي “اثار حفيظة” اهالي ام الفحم الى هذه الدرجة (وفئات وشرائح اخرى)؟ هل كانت صورة الرجل الفحماوي (المغتصب والمنافق) المتمثلة في الفيلم ما اثار كل هذا الغضب؟ أم كانت تلك الخاصة في المرأة الفحماوية؟  او تلك الصور المختلفة والجديدة وغير التقليدية للشابات الفلسطينيات؟ ام كان الاستنكار الدائر هو بسبب مشهد الاغتصاب؟ باعتقادي ان جميع هذه العوامل لعبت دورا ما في اثارة رد كهذا.

يدور في الخطاب النسوي مؤخرا(النسوي الأسود على وجه الخصوص) حديث حول لغة العنف الجنسي الطائشة والمتهاونة. أي اننا نقوم بتناول العنف الجنسي والتعاطي معه غالبا من خلال لغة ليست غير حذرة فقط، بل تكون احيانا طائشة ومتهاونة وتؤدي الى تعزيز وتعميق “ثقافة الاغتصاب”. واللغة الطائشة في تناول العنف الجنسي في السينما تتجلى مثلا في شعورنا بالخدر امام مشاهد اغتصاب، واحيانا كثيرة يقع العديد من الفنانين في مأزق الاستغلالية عند صوغهم لمشاهد العنف الجنسي والاغتصاب لأهداف ترفيهية وربحية، وتلصصية ايضا. تنادي النسوية لصياغة لغة جديدة عند تعاطي السينما والاعلام والادب مع العنف الجنسي. وهنا أريد القول، ان مشهد الاغتصاب في “بر بحر” ينجح في فعل ذلك، فبشاعة المشهد ليست جميلة وهي بعيدة ان تكون لافتة للانظار وبفضل هذا، ينجح المشهد في استفزازنا، وايقاظنا من الخدر الذي نعيش فيه فيما يخص العنف الجنسي. ومقابل ذلك، ولان الفيلم (او مخرجته) يدّعيان رسالة اجتماعية معينة، من المهم التوقف عند تصوير الفيلم للرجل الفلسطيني(الشائكة بعض الشيء)، وربما سأفعل هذا في فرصة اخرى.

اخيرا، يجدر القول بان العمل الذي خلقته ميسلون حمود وطاقمها، هو اضافة مهمة لمجتمعنا الفلسطيني، رغم كل شوائبه. البطلات في “بر بحر” لا يحسبن حساب احد، يبحثن عن تحقيق ذواتهن وعيش حيواتهن. “يعني السكر والتحشيش والرقص والسكس واللبس القصير… هاي هي الحرية؟”…الفيلم يرد هكذا- نعم، هذه ايضا حريّة.