صَلّوُحة/ أيمن الدبّوسي
|صَلّوُحة|
|أيمن الدبّوسي|
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا.)
قُرآن
صَلّوُحة
“القسم الثالث”
واصلتْ صلّوحة العمل في بيتنا حتى بعد رحيل والدتي. صارت تأتي مرّتين كُلّ أسبوع. لكني لم أتعرّض لها بعد ذلك إطلاقا. بتّ أشعر تُجاهها بضرب من الرّهبة والامتنان. ولفترة طويلة لبثت مُفتونا بقوّتها الغريبة. كان فيها شيء من برودة المرمر وقسوة الفولاذ. شيء من عتمة الهُوِيِّ السحيقة يُورث الاقتراب منه إحساسا بالدّوخان. وزدتُ يقينا من أنّ آلامي وأهوالي كُلّها ما كانت لتحشو كيسا واحدا من أكياس القمامة التي تجمعها. فهي في انكبابها الدائم على أشياء الأرض الدنيئة، وانصرافها لقضاء الأعمال المرذولة، أدركَتْ ما لا يُدرَك إلا بعُنف الفقدان وآلام الإفاقة العاصفة. هناك، تحت أقدامها الغليظة والمشققة، كانت ترقد كلّ حقائق العالم المتروكة. حتى أنّ لا شيء بات يقدر أن يملأ عينيها اللتين ألِفتا الهول. ماذا يعني الله بالنّسبة لصلّوحة؟ ماذا تعني النجوم؟ ماذا يعني الأفق؟ ماذا تعني كلّ تلك الأوهام التي تعلّقت بها أعين البشر وأفئدتهم؟ لاشيء. لا شيء قطعا. وحسبي أن نفسَها نفسُها ما كانت لتعني لها شيئا.
كانت قوّة في الحياة أقوى من الحياة. قوّة هائمة نشأت في غفلة من الوجود، جعلني احتكاكي بها أتغلّب على سُخطي وحزني. بعد أن نَحرتُ إرادتي طوعا على صخرة لامبالاتها. “لا فائدة من المواجهة”، كان ذلك أكبر درس لقّنتنيه وفنّها الأكمل. ويبقى أروع ما تعلّمته منها هو أنّ الحياة تقتضي أحيانا أن ننظر إليها بأعين صلّوحة. أعين الأسماك النّافِقة. وكانت لامبالاتها البريئة أقرب ما يكون إلى التسامح. تسامحٌ لا مشروط لا يستثني أيّ شيء كان. وقد ظلّت، بالرّغم من كل ما لاقته مّني، تَلجُ غُرفتي كالعادة صبيحة كل سبت لتنظّفها. لم أجرّب لمسها منذ تلك المرّة التي ألقيت بيدي في غيبها. غير أنّني واصلتُ تأمّلها بشغف تقلّص مع مُرور الوقت. وشيئا فشيئا عادت لموضعها الأصلي. شيئا يتحرّك ضمن بقية الأشياء المُحيطة. وصرتُ بدوري أتجاهلها وأتناسى وجودها بالغرفة مواصلا التصرّف بكلّ تلقائية.
مضت خمس سنوات قبل أن أعاود الانتباه لصلّوحة. خمسُ سنوات من الأشغال الشاقة لم تنجح في هزيمة شعرة واحدة من شعرها الفاحم الغزير. لا أزال أذكر دهشتي وفرحي لمّا باغتت أخويّ التوأمين وهما يُواقعانها في غُرفتهما. كان الأول قد حاز الرِّدف والظّهر والثاني الفم والثّدي. أفرحني أن يعمّ خيرها. تمنّيتُ لو أنّ الفرصة تُتاح كذلك لوالدي وأختيّ حتى يعرفوها كما عرفتها ويستفيدوا منها كما استفدتُ منها. وكنتُ بفضلها قد زدتُ صلابة ونضجا وتركتُ الكثير من الشواغل التافهة خلف ظهري. رؤيتها عارية مرة ثانية، بعد كل تلك السنوات، عمّقت حيرتي في شأنها. فباستثناء شعرها الفاحم فإن بدنها لم يكن يحتوي على أيّة شعرة مثلما عهدته دوما. كانت ملاكا. حتى أعضاؤها الحميمة ظلت ملساء نقيّة كمتاع الصبايا الصغيرات. يبدو أنّ لا شيء فيها قد تغيّر. حتى آثار مروري عليها امّحت تماما. وقبل أن أضيّعها مرّة ثانية ذهبتُ إلى الاعتقاد بأنّها كائن دهريّ لا قُدرة للزّمان على التأثير فيه. إلى أن جاء اليوم الذي افتقدت فيه صلّوحة. إخوتي وأبي افتقدوا حضورها وأنا افتقدت غيابها. هكذا، دون سابق انذار، تبخّرت. انقطعت عن المجيء لبيتنا. ترقّب أبي رجوعها ثلاثة أسابيع قبل أن يستنجد بمعوضة. لم تكن الخادمة الجديدة بحذاقة صلّوحة وصبرها لكنها أرجَعتْ للبيت توازنه المفقود. وما هي إلا أسابيع حتى امّحى كل أثر لصلّوحة عن بيتنا. كنتُ أعلم أنّها لن ترجع. رغم أنّها لم تتغيب عن عملها طيلة السنوات الخمس السابقة ولو مرّة واحد. وحده الموت كان قادرا على صدّها عن عملها. وكنتُ على يقين من أنّها ماتت. سألتُ عنها خادمة عجوزا كانت تعرفها فدلتني على قبرها وكان غير بعيد عن قبر والدتي الذي لم أزره من يوم دفنتها. دخلت الجبّانة آخر العشي لزيارتها. كان الطقس باردا وموحشا. مشيت بخطى اللّصوص وبقلب مصمم على الإثم. سلكت بين القبور باحثا عن قبر صلّوحة. إلاّ أنّي لم أخطو بضع خطوات حتى جمدت في مكاني وانفلقت بضحكة سوداء مدوّية. لم أكن محتاجا للعثور على قبرها. كانت في كلّ مكان. كانت كل الذين يموتون ويُقبرون ويصيرون “صلّوحة”، فلا يعودون ينفعلون أو يُبالون. وهي لوحدها كانت “صلّوحة” قبل أن تموت وحتى بعد أن ماتت. ورغم ذلك واصلتُ البحث عن قبرها حتى عثرت عليه مبثوثا عند منحدر وعر في أقصى الجبّانة. كان كما دلّتني عليه الخادمة العجوز، كتلة صمّاء من الاسمنت بلا شاهدة قبر، إلا من كأس صغيرة أقحمها مجهول في الكتلة الرمادية العمياء. كانت عادة غريبة تميّز تصميم القبور عندنا. سألت في شأنها والدتي صغيرا، فقالت بأنّ الكأس التي يملؤها ماء المطر، أو الزوّار، وتشرب منها العصافير، إنّما هي صدقة من الميّت على الطّير. أمّا الآن، وبعد أن كبرت، وعرفت صلّوحة ولامبالاتها، صرت أفهم أفضل من ذي قبل كلام والدتي في شأن اتصال العلاقة بين الأحياء والأموات. كان ثقب البلّور المنبثق في الإسمنت عند موضع العانة من القبر يلمع، والعشي يتنفس آخر أنفاسه، فما كان منّي إلا أن أخرجت أيري وبلت في الثقب.