كنتُ أحتفلُ بعيدِ مجيئي الأولِ قبلَ أنْ أولدَ روجيه غريب

|روجيه غريب|

| اللوحة – بلا عنوان- الفنان السوري فادي اليازجي|

كنتُ أحملُ شنبَ أبي و أَجوبُ بهِ المرتفعاتِ, كانتْ ظلالُ شجرِ الزيتونِ تقطفُ عُنفوانَ الوجهةِ

أمّي ريحٌ تطيرُ من فرحِها, أمّي تُريحُ الصدمةَ بين نهديها : أنا.

البدايةُ تتقيأُ مشيمَتي .. أزفُرُ الهواءَ بقرفٍ.. أمّي هي النَفَسُ الأكثرَ حنيّةً وسخاءً

مكثتُ بجسدها حتى قضمتُه .. فولدتْني عِقاباً ربما.

كنتُ قبلَ أنْ أولدَ فكرةً اِقتَبَسَها والدي  من الترابِ , صَوَّبَها بمنجلٍ صَدِئٍ ..

كنتُ قبلَ أنْ أولدَ فكرةً فهِمتُها حتى تَنَسّكتُ.

كنتُ خطأً اِرتكبه الجميعُ و صواباً نَحَرتُه على شاهدة قبري

كنتُ قصيدةً قبلَ أنْ أولدَ .. أنا الآنَ ديوانٌ منسيٌّ

*

جَدّي يتلمظُ تفاصيلَ أبي بنهمٍ ,شاربيه, عينيه الملونتينِ ويمررُ النَسخة.

جَدّي يتقيأُّ العائلةَ من زاويةِ الكرمِ

حاذقاً, متنصاً , مهزوماً يصوّبُ عينيهِ نحوَ الطعامِ كانَ والدي

أنا الآنَ وجبةٌ شهيةٌ , أتمرجحُ بالنّظراتِ

لكنّني بِلا طعمٍ .

*

شارداً في الحقلِ خيالُ أمّي الخصبُ.. تحلُمُ بقطيعٍ من الأطفالِ و زوجٍ مُنيرٍ

الأرضُ بورٌ الآنَ لكنْ شقيقتي نضجتْ قبلَ الثمارِ .

صغيرتي تسألُ دائماً : لماذا لمْ أولد كبيرةٌ ثم أصغرُ ؟؟

تُطعِمَني أمّي سؤالي مع الفطورِ: كيْ تسألْ, ثمَّ تمتنعُ عن الإجابةِ..

*

قضمتُ شقيقتي عندما كانت تأكلُ الطعامَ و هي تُعِدُّهُ

كنتُ أبلهاً لا أُجيدُ الطبخَ

البارحة دعوتُ الوطنَ على مائدةِ الحوارِ .. كانَ صحنُ أختي  فارغاً.

*

كنتُ أحمِلُ بيتنَا في راحةِ قصيدتي ,نطوفُ الطرقاتَ بحثاً عن وطنٍ

كنتُ مشوهاً بالجدريِّ وبالموتِ

أو مرقطاً بالحياةٍ .. لا أدريْ

لكنْ وجدتُ نفسي الأكثرَ شراهةً عندما ابتلعُ الحقيقةَ .

*

عندما هاجرتُ حزمتُ دموعَ أمّي و تنهداتِ أبي .. و تركتُ شقيقاتي وحيداتٍ بِلا رائحةٍ

الندمُ يَقتطِعُنيْ الآنَ : لماذا لمْ أَكُنْ عِطراً ؟

كنتُ أعرفُ أنَّ البيتَ لهُ أحزانٌ مِثلَنا ..

كنتُ أعرفُ أنَّ الدرجَ كانَ يعبُرُني بحرفيةٍ عندما أتدعثرُ

كنتُ أعلمُ أنَّ حقيبتي ستنساني ..

لكنْ لمْ أدركْ إلى الآنَ أنِّني لمْ أُهاجر.

*

كانوا أقربائي يقضمُون عائلتَنا من مدخلِ البيتِ وصولاً لكتاباتي على الفيسبوك

كانوا يُسقِطونَ كلَّ آثامَهُمْ على رؤوسِ الإناثِ ..

الآنَ أقفُ في الجهةِ المُقابلةِ من المنبرِ دون اكتراثٍ

الآنَ أقفُ مع آثامِهِم نلعبُ الشطرنجَ إلى أنْ تفوزَ الملكةُ

و نرمي العائلةَ خارجاً.

*

كنتُ أعتقدُ أنهُ عندما أُصبِحُ شاعراً  ستتلو عشيقتي قصائدي في وحدتِها

البارحة امرأتي قالتْ:

أطعِمْ الأولادَ جيداً فأنا لا أُجيدُ الّلغاتَ

أنا نسيتُ الشّعرَ و صرتُ مطعماً.

*

في المنزلِ كنتُ أتشاجرُ وأبي لأني أخطُّ الشّعاراتِ على جدرانِ غرفتي

في السكنِ المُشترك تشاجرتُ و الحائطِ لأنَّ أبي كانَ يلوّنُ بدمعاتِهِ كتاباتي

أبي لا يقرأُ .. لكنَّه يُحِبُّ

*

في الحانةِ كنتُ أتلوى لأُلفِتَ نظراتِ النادلةِ المثيرةِ

في هذا المساءِ أنفضُ عنّي الليلَ و المشاربَ

أنا زجاجةُ كحولٍ لا تُسكِرُ

أنا كرسيُّ في المشربِ بلا أقدامٍ

أنا ثملُ قبلَ أنْ أُفطمَ.

*

عشيقتي غرقت في الضحكِ قبل أنْ تبلغَ , عشيقتي تايتنك الواقع

أبررُ لها كلَّ موجاتها, أرسمُ  بمجاديفي سقوطها رأساً على عقبٍ

أرمم مدينتها الغارقةَ في الماءِ بدولابِ النجاةِ

أنا بحرٌ الآنَ

لكَثرةِ الجبالِ الجليديةِ الذائبةِ فوق جسدي اِعتزلتُ المدَّ والجزرَ

لكَثرةِ ما كانتْ تتنهدُ و تصرخُ عندما نغرقُ فينا اِعتزلت التّموجَ ثمَّ أسبلتُ العمقَ.

أنا بحرٌ الآن جفَّ ماءَهُ.

*

كنتُ أحتفلُ بعيدِ مجيئي الأولِ قبلَ أنْ أولدَ

لا شموعٌ لأُطفِئَها ولا ذكرياتٌ تسحقني

لا أحدٌ يحتفلُ بقدومي إلى الحياةِ سوى الموت, يُخمُدُني ,

يقضِمُ الأيامَ و يضربُ الكعكةَ و المبرراتِ عرضَ الحائطِ

هديةُ ميلادي الوحيدة كانتْ كابوسٌ.. كانتْ  هذهِ “الحياةُ” .