حدثان صغيران لا أهمية لهما الآن/ فراس المعصراني

|فراس معصراني|

|فوتوغراف كاثرينا غيبير|

شريطٌ طويلٌ من الذكريات يدور في رأسي

ما فيه ينعكس على الجدار من فتحة صغيرة في جبهتي:

سينما الذكريات

الشريط لا صوت له

لهذا أضع خلفية موسيقية مناسبة

أدهن بعضاً من الزبدة على قطعة خبز منسية في كيس رمادي اللون منذ حوالي الأسبوع

وأحاول أن أتذكر من الفيلم الذي يعرض أمامي لماذا أنا في هذه المدينة من سنتين وبضعة أشهر

أكتب هذا الشيء وقد مرَّ عليه أكثر من عشرين عام

حينها كنت فاقداً للذاكرة

ولم أستطع أن أعرض هذا الشريط إلا بعد جهدٍ مضنٍ من الاطّلاع على الدفاتر واستخدام المقص واللاصق لقص المشاهد وإعادة لصقها لتشكّل ترتيباً منطقياً

وأكتب لكِ هذه الرسالة لأخبرك إنني اكتشفت حينها

وبسرعة

وأنا في القضمة الثالثة

أن وجودي في هذه المدينة التي لا حدائق فيها سببه أنني تلقيت مكالمة هاتفية لم أسمع صوتاً منها

بعض أصوات تنفس خفيف

وبعدها توجهت وأنا برداء النوم إلى مكتب الهاتف الذي يبعد عن غرفتي غير الصالحة للعيش لعمر وفير

وسألت عن مصدر هذه المكالمة

أخبروني إنها من رومانيا:

بلاد سيوران

روديكا برابنسكو

سلبيسيا

عدت وأنا فاقد للتركيز

يداي ترتجفان فلم أقدر على حزم الكثير من الأمتعة

لم أعتقد أن رحلتي ستطول كل هذه الفترة

عقدت صرة صغيرة فيها رداء واحد

تفاحتان

سكين صغير غير مؤذٍ

ضوء برتقالي

ومشطكِ القديم

رومانيا بلد كبير

وأنا في أرضه الواسعة لا أتعدى أن أكون ذرة من الغبار على رف كتب من مكتبة فيلسوف مخمور لم يرَ السماء منذ مات نيتشه /حداداً عليه/

أشعر أن القصة لن تنتهي

لن أستطيع التوقف عن كتابتها

عشرون عاماً ليسوا بالزمن الهين

فالحرب في مدينتي استغرقت عشرة أعوام ولم يتبقَ بناء واحداً أستطيع أن أميزه

لا بناء موجود من ما قبل حقبة الحرب

جلّ ما أريد أن أقول لكِ هو كم تعذبت وأنا أقص وألصق بذكرياتي والاطّلاع على الدفاتر مثل باحث شقي يريد أن يجبل حجة تنهار بها مزاعم باحث لا يطيقه

حتى استطعت أن أصنع هذا الشريط الطويل

مدته ما يقارب الأربع ساعات

وبعدما أعدته إلى المكان الذي يعكس لنا ذكرياتنا وشاهدته

لم أرَ سوى أنتِ فيه

كل الشريط

الفيلم كله يتحدث عنكِ فقط:

/صورة فوتوغرافية لكِ

تطبخين

تمشطين شعرك بعد خروجك من الحمام

تبتسمين للعجزة في الشوارع

ترقصين لموسيقى لم تعجبني يوماً

مخمورة

مريضة

تركضين في حديقة زرقاء محاطة بأبنية قرميدية اللون / لم أميز الحديقة والأبنية/

بعدما انتهى الفيلم

علمت جيداً أن الأمر كله متعلق بكِ فقط

أنتِ

هذا كل ما تذكرته

ذاكرتي مبنية على هذين الحدثين الصغيرين:

– المكالمة الهاتفية من رومانيا

– شريط الذكريات الذي صنعته عنكِ

لا أعرف أسمي / عنواني / اسم بلدي / كم عمري / ما الموسيقى التي أشغّلها الآن / أو الطعمة التي في فمي

لا أعرف إن ما زلت في رومانيا أو في مدينة أخرى أو على زورق في نهر مهيب لا ينتهي /لا يتوقف/ وسيكون مراسم تأبيني الوحيد