شعرية التهكم \ كفاح الزيني
| كفاح الزيني |
باريس، 1896 م.
على خشبة مسرح الأوفر صرخ “أوبو” بوجه الجماهير : “خراء”، اجتاحت بعدها الجماهير حالة من الضوضاء لمدة ربع ساعة، انتهى العرض المسرحي، وبكى الشاعر الفرنسي “ييتش” قائلاً “أنا حزين، فبعد رقة الإيقاع و الظلال الخافتة و كل الشعر، ماذا يمكن أن يبقى سوى الإله المتوحش أوبو”.
ربما تسقط كل الشعرية عند أول تهكم، بالإمكان أن يقف “بابلو نيرودا” في جزيرة “أيستر” بتشيلي أمام 900 تمثال حجري لأوجه شامخة لا أحد يعرف من نحتها في هذه الأرض الموعودة، يقف نيرودا مع الريح ليقول ” لقد نمت إلى جوارك، وعند الاستيقاظ وجدت في ثغرك الخارج تواً من النوم طعم الأرض، طعم المياه البحرية، واستقبلت قبلتك وقد رطبها الفجر”، ليأتي طفلٌ طحلبي الشكل، نصف رأسه بغير شعر، يقف أمام نيرودا يخلع بنطاله بعد القصيدة و يتبول أمام كل التماثيل.
فليسقط نيرودا و لتسقط حبيبته صاحبة الثغر البحري.
عندما أتت الحركة الدادائية بمنحوتتها “المبولة” دمرت كل التراث و الرأسمال الفني، إن شيء وظيفي اكتسب قيمة فنية خالدة فقط لأنه أتى تهكما على كل الشعرية، ومن المؤسف أن مواجهة التهكم أمر محكوم بالكاريكاتور، إذ أنه كلما استمر نيرودا بإلقاء الشعر أمام تبول الطفل، كلما انهارت كلمات نيرودا و كلما أصبح التبول شعرياً أكثر.
إن التهكم مبني على أساس التفاهة، إذ أن كل شيء تافه، وضمن سؤال بسيط مفاده “ما معنى هذا الشعر؟، أو ما معنى الفن؟ لمَ علينا البكاء أمام مجموعة من الخطوط العبثية على القماش؟ لمَ علينا الخشوع أمام بعض الحركات الجسدية المختلة لأناس عراة على الخشبة؟.
إن التهكم حالة من العدمية، أو ربما سخرية من المأساة، ولاشيء يدمر الريبة سوى الضحك، كذلك فالعدم لا يجادل.
إن وصول الإنسان إلى اليقين، اقتضى مأساة التفاهة، فحتمية المصير الإنساني المتمثلة بالموت جعلت الإنسان مسكيناً، وليست الحياة سوى هذا الصراع المضحك للإنسان، الحياة المرهقة بالوجود اليومي الذي لا طائل منه، ويقول الفيلسوف الفرنسي “ألبير كامو” أن العبث يولد من اصطدام رغبة الإنسان بأن يكون سعيدًا ويصل إلى عقلانية العالم، من جانب، مع اللاعقلانية الصامتة لهذا العالم، من جانب آخر، وبالتالي فإن العبث يقاس بنسبة عدم توافقنا مع الوجود المحيط بنا.
إذا ليس هنالك أهمية لأي شيء في هذا الوجود العبثي إلا الموت و الدهشة، والموقف الشعري الرومانسي من الموت سيؤجج حالة الضحك، سيجعل من الإنسان مثيراً للشفقة، وبالتالي ليس هنالك أي سبيل سوى الضحك، فلنسخر إذاً من كل شيء، من المقصلة و الخبز و الحرب و الحب و الشعر و لنسخر من أنفسنا.
من هنا يصبح للتهكم سمة جديدة، يصبح شعرياً بالضرورة، بل و حزيناً و عميقاً، ومن يتهكم على هذا العبث يصبح أكثر قوة، لتعلو مكانة المتهكم إلى الأعلى، إذ أنه من خلال السخرية فقط بإمكانك إسقاط المأساة، فلنخلع السراويل إذاً و نتبول أمام المرآة، هكذا نكون جبابرة، أمام كل الإعياء القديم.