مدينة في الرماد أحمد كيال
أمقُتُ هذهِ المدينة. أمقُتها أكثَرَ من أيّةِ مدينةٍ أخرى.
أستنشق بنَهَم,أفتَحُ عيني…إنّهُ الرماديّ.رماديّةُ هذهِ المدينة, الحجارة,السماء.كلّ شيء هنا ظِلٌ رمادي ، حتى الشمس ، تتواطأ المدينة مع سأمٍ رمادي, كأنَّ الحجارةَ تتآمر لخلع الشمس. هنا, يتراكم حطام أحصنة أبوللو المتكسّرة في الرماد, ضوءُ السيجارة.
أحياناً, أظنُّ أنّ المدينة أجمعها سجنٌ واحدٌ كبير. حينَ يمُرُّ الباص عبرَ بعضِ الأحياء ألاحظُ القضبان. ألاحظُ القضبان وأحياناً ألاحظُ الشبابيك السجينةَ خلفها.أظنّها موجودة لتمنع الناس من الوثوب إلى حتفهِم.
ألهو بالفكرة.هل أستطيع أن ألومهم؟
لقَد أنهيتُ عملي للتو, يوم آخر مِنَ العبث في طرفِ المدينة. يذبل النّهار وينزلِق كالشّمع ويأتي مساءُ السبتِ التعيس. وسائل النّقل العمومية غير متاحة بصورة مريحة. لم أنتظر أو بالأحرى لن أنتظر تاكسي بعدما قحطت قماش المحفظة. هذا الحيّ يعُجُّ باليهود الأرثودوكس . الأرصفة تمتد كرقعة شطرنج, لا أرى سوى البيارق السوداء. أطفئ علبةَ الأغاني وأسحب “أنفوزيا” الموسيقى من أذني.
أخاف.
أخافُ من انتهاك الحرمات,بالذّاتِ تلكَ التي تضمن انتهاك حُرمتي . أقابَل بنظرات مشبوهة. أدّعي الانشغال بالتفكير أو العجلة لقضاءِ أمر ما. أمر مُهم. أمشي أسرَع قليلاً.
لا أخافُ الله, لكن تباً لي إن لم أعترف أنّي أخافُ رِجاله, خاصةً إن اجتمعوا.
أبدأ حَجّيَ الخاص. إلى مكتبي ,غرفة صغيرة في البناية رقم ستة عشر في المسكن الطلابي في التلّة الفرنسية. أرى المحطة المركزيّة في الأفق, سأشعرُ بانعدام الأمان أقل حينَ أصل الأفُق. أمشي.
حينَ أقهرُ نفسي وفزعي, تَخِفُّ وتيرتي تدريجياً وأحاول أن أتحرر. أن أشلحَ أفكاري المسبقة وألقي بها كقشرة موز, في جيبي. أحاولُ النظر إلى المعاطفِ السوداء. أحاولُ أن أرى الإنسانَ تحتَ القُبّعة. أن أرى إنسانيّتهُ تشقُّ طريقها عبر ذقنه أو أكمام المعطف. عليّ أن أتبع الرصيف. الرصيف لا يميّز بينَ الأقدام, على كلّ حال, أرى الأطفال تمشي مع المعاطف. وأرى العربات اللتي تجُرّها المعاطِف. أطمئنُ قليلاً.
تسيلُ العتمة بالتدريج, تنبسط بالتساوي على المدينة.ظلال البنايات والأشجار الممدة تبدأ بالتلاشي إلى أن تشعّ عواميد الإضاءة وتلقي بضوئها نظرات شرطيٍ مُتَفَحصّ, على الظلال.
أمقُتُ المدينة أكثَر في نهاية الأسبوع حينَ تخلعُ اللباس المدني وتلبسُ لباسَ الطيفِ المترَبّع على العرش.
أصل شارع يافا أخيرا. عقارب الساعة الكبيرة على بناية المحطة المركزيّة تؤشّر إلى الساعة العاشرة. أتابِعُ طريقي, وأفهَمُ شيئاً ما بشكلٍ جزئي, أمسِكُ بطرَفِ ثوب ذاك اللذي مضى هنا قبلي. أتلَمّسُ الفيا دو-لاروزا. أرى طريقَ الآلام وباروديا التاريخ حينَ يتَكرَّر. أصنَعُ طريقي عبرَ شارع يافا إلى مركز المدينة. المدينةُ مغطاة الآن بنقابٍ رقيق من الضوء الأصفر وضبابٍ يدثّرُ الشوارعَ كمنديلٍ حريري.
لا يوجد أحد في الشارع.
بعد بضع دقائق من المشي وانعدام الحياة في الشوارع, لا أذكرُ حتى رؤية القطط, أكادُ أصدّق أن المدينة هي, كما تبدو, مهجورة.
تصطف البنايات على طرَفي الشارع, بنايات دون ارتفاع يذكر وأبواب موصدة كالجلاليب حينَ تمضي لتُحيي الرّب.هنا تنتصب مراسيم تجانس المدينة عديمة الملامح. هنا, ينصَهِرُ كُلّ ما كان مع كُلّ الموجود.
في مخيّم يهودا, ألاحظ عجوزاً تلتف الخرق من حوله, يجرّ قدماه عبر شارع السوق الحجري العتيق. ظهره مفتول نحوي, السقف المُقوّس يحضنُ كينونته الصغيرة. يبدو المشهد كصورة يتفحصها أحدُ السيّاح, حينَ يعودُ إلى دياره خلفَ البحر ويتفاخر بتواضعهِ اللذي فرّ من الأحياء الشعبية.
القناطِرُ, هنا, إبتساماتٌ مقلوبة.و كرنيشٌ كسول يتوّج رؤوس المباني.الآن حين لا يطأ أحد الشوارع, أستطيعُ تصوّر إمكانية الوقوع بحبِّ هذهِ المدينة شهيداً.
لقد جَلَب الليلُ نظاماً يَهرُبُ في ضوء النهار. رقصة فالس تحت ضوء قمرٍ خجول.الشُرَف معلّقة كالقواوير على طرفي الشارع, تسترقُ السمع لخطا عابرة مصادفةً. ونظرة سريعة تكفي للقبض على آنية زهور هنا أو هناك, تتجسّسُ على المارّين.
في ميدان تسيون, مئات الآلاف من النسمات تختفي, لا أحَدَ هنا أيضاً. إمّا أنّ كان قد فرعون مرّ من هنا, أو أنّ الطقسَ كان بارِدا بشكل خاص ذاكَ المساء… او أنّهُ مساء السبت. طبعاً. أو اجتمعت الأسباب إلّا أنّ الوحدةَ واحدة.
هنا يقطن المقطع الشائك. أحتاجُ الوصول إلى التلّة الفرنسية. أعلَمُ أينَ تقع التلّة لكن لا أعلم كيفية الوصول(ليس بصورة مباشرة على أيّةِ حال). أغامر. أتّخِذ طريقاً مختصرة.
أتذكّر المرّة الأخيرة اللتي سلكت بها طريقاً مختصرة. أنتهى بي المطافُ حينها في حيٍ طرّزت شعارات “الموتُ للعرب” الحائط، فيه. تهت قليلاً. رُغمَ عِلمي أنّي أقرَب إلى هدفي, كنتُ أبعَد.
أحتاجُ إلى برزخٍ ما. أحتاجُ إلى عصا لأتحسس طريقي.
وجبَ عليَّ المرور عبر أزقّة مكتظة وضيّقة. كانت هذهِ منطقة الأورثودوكسيين جداً. هذهِ المنطقة المحصورة بين شارع الأنبياء وشارع يافا. حدث هذا في مثل هذا اليوم. أكرهُ أيّامَ الجمعة.
أذكُرُ وقتها أفكاري تقتلِعُ حجارةَ الرّصيف. “لا تتكلّم! لا تتكلّم! لا تتكلّم! تصرّف بشكل طبيعي. أبدي إهتماما بهذا البيت أو بحاوية النفاياتِ تلك. لا تتصرف بشكل مشبوه حين تمرّ عصابة الناس تلك.” أوقاتٌ حميدة!
عودة إلى الوراء… أو عودة إلى الأمام. نعم. ميدان تسيون. آخذُ طريقاً مختَصَرة. إلى الشرق. عليّ إلى الشرق العبور. إلى جهةِ العَرَب إلى أي جحيم, فقط ليسَ هذا الجحيم. أفعَلُ ذلك بهدوء وأمتنع عن أي لقاء بين عيني وعينا أيٍ كان. لا أريدُ أن أرى أحداً يراني حتى أصل الجزء العربيّ من المدينة.
يالَلمُفاجأة .
المدينة الطيف طيفٌ هنا أيضاً. الجمعة يومُ الإسلام المقدّس. عليكَ أن تُحِبَ أيّامَ الجُمعة.
لا زلت أشعر بإلحاح على المشي بسرعة والنظر خلفي بينَ الحينِ والآخر. لأتأكّد أن لا أحد يتبَعُني. لأتأكّد أنّي أتَقَدّم. لأتأكّد أنّي حينَ أمضي, تختَلِفُ المناظرُ خلفي.
لا أرى سوى سائحين إثنين بالقرب من فندق. كل شيءٍ مغلق حتى بدا لي أنّ السماء تغلِقُ عليّ أيضاً. تضاريسُ المكانِ هنا أخشن. بناياتُ الحكومة جدرانٌ عالية وحواجزٌ منصوبة.
تهديدٌ ما يتربص هنا, غاز منفوث بإنتظارِ شرارة.
الجميع يعلَمُ أنّ المدينةَ هيَ منطقةُ حرب. حياة رابضة في الرماد, أو رماد رابض خلف الحياة.
“سخرية مأساوية”. هذا ما يعنونه. هذا السلام المُنعَم مِنَ السماء على مدينة إحترفَت الصلاة.
لم أستطع أبداً الشعور بالأمانِ هنا. في هذهِ المدينة. كلا. لا أشعُرُ بالأمان, لكنّي تعوّدت. تعودتُ على انعدام الرّاحة.
مع كلّ المعابِد المزروعةِ في كلّ مكانٍ هنا. الكنس, الكنائس والجوامع أعلَمُ أنّهُ حينَ يأتي أحَدَهُم, يسحَبُ سكّينه ويطعنُكَ بأدب, لن تجِدَ الله.
لا أستطيعُ التغلّب على مخاوفي خارِج نفسي, معظم الوقت أودُّ لو أن هذا السيناريو كلّه ليس إلّا محض بدعةٍ في رأسي. أحبّ أن أعتقد أنّ هنالك شيئا لا أراه أو لا أفهمه. هذا الشيء, شيءٌ ما, في هذهِ المدينة, يراهُ الآخرون.
ببطء, دخولاً في الليل, أتلاشى خارجَ المدينة إلى غرفتي وأنا أفَكّر:
“هنالِكَ جمالٌ ما في هذهِ المدينة. لا بدّ من أن يكون. لا بُدّ.”