وردة حدائقي المسوّرة / محمد رضا
| محمد رضا|
مذ زمن بعيد، وأنا أجمع أوراق الأشجار المتساقطة وألصقها في الدفتر الأزرق الذي أهدتني أياه جدتي، لأدوّن فيه واجباتيَ المدرسيّة، أجمع أوراق الليمون، والحامض والدفلى، وزهر اللوز، وأصفها بالتدريج، من الأصغر إلى الأكبر، مكتوفة الأيدي، بغير حراك، مثل أطفال المدارس.
ولم يسبق لي، في أياميَ الكثيرة، أثناء بحثي عن طرائد جديدة، أن لم ألتقِ بزين، وارفًا ظلّ شجرة ما، أو مستلقيًا على العشب الرطب، كأنه ظلّ هذا السفح، يفترشه، وينام فيه، وينزه أقدامه في ينابيعه، مثل الأسماك والضفادع
أتذكر أنني سمحت له بمرافقتي، في إحدى الأيام، بعدما تعثرت وسقطت في بقعة من الوحل، ولطخت ثيابي كلها، من رأسي إلى أخمص قدميّ، كدرع حماية، حتى لا تعاقبني جدتي، أو تهيّر لي قضيب الرمان الحامي.
وفي أثناء سيرنا، أسرّ إليّ بأنه يكره كثيرًا شجرة السرو القابعة في مدخل القرية، لم يخطر ببالي أبدًا، أنه يمكن للمرء أن يكره الأشجار، حتى الموحشة منها، لهذا تفاجأت، لم أدرب أنفي على شمّ رائحة الأشجار الحقيقية من الداخل، ولم أعلّق، كي لا أتهم بقصر الشمّ.
أخبرني أنه منذ مجيئه إلى القرية، وشجرة السرو هذه، لم تتبدل ولم تتغير، رغم تعاقب الفصول عليها كل سنة وتغير المناخات، أتعبه أنها عتيقة وصامدة، يمكن القول، عصامية، اذا جاز الوصف، اذ انها تتسلى مع الغيوم في النهارات، ثم تعود إلى وحدتها في آخر الليل، كما يفعل معظم البشر, وتنصرف إلى شؤونها وما تشتهيه
لقد اعتاد حسان، أن يقف قرب هذه الشجرة يوميا، وأن يقيس طوله بها، وقد أحزنه كثيرا، ثبات ظلّ السروة، وغياب قامته في سراديبه، لهذا فزين، ليس أول الحاقدين على سروة قريتنا
لم يكن زين أول الوافدين إلى القرية الجديدة، فقد سبقه إليها أجداده وأسلافه، جاؤوها بحقائب قليلة، لا تتسع لساعات طوال، قضوها تحت ساعات قائظة في ورش البناء حتى خشنت أياديهم، واشتدت سواعدهم، واتشحت عيونهم بالسواد، رغم أن جذر عائلاتهم الأول يعود إلى بلغاريا، أي أنهم لم يكتسبوا حنطة أهل الجنوب ولا قسوة ملامحهم، حتى يخيل إليك أنهم ليسوا من العرب في شيء.
زين، الحفيد الأوّل لعائلة أل المعمّر، جاء من تلال بعيدة تتخذ الشمس فيها سفحًا كبيرًا، تحرسه بأشعتها. ابن قرية جبلية، لا يعيش فيها سوى النّساك وكبار السن.
هرب على غفلة من رجال القرية، وارثًا عادة أجداده في التسلل بأمتعة قليلة وذكريات مفتوحة على نوافذ الرّيح.
كنا نراه يوميًا، أخي وأنا، وهو ينشر الغسيل على مرأى من عيون الجميع، كلّ من يعيش في هذه القرية، يعلم جيدًا، أن نشر الغسيل على السطوح، يتطلب جسارة محمومة وجرأة في الطرح، ماذا لو كانت الثياب المنشورة، مهترئة ومرقعة بتطريزات كثيرة، مثل بناطيل زين وقمصان الصوف خاصته وبروتلاته وبيجاماته.
جاء وحيدا، بجسد منكمش على نفسه مثل المصابين بالسلّ، وملامح حادّة تمامًا، ونظرات يخيل إليك في المرة الأولى أنها خبيثة، لكن سرعان ما تغيّر انطباعاتك عنها، حين تشق ابتسامة خجولة، الطريق أمام شفاهه المكتنزة كأكواز الرمّان المزروعة أمام دارتنا.
راقبت دومًا تحركات زين، أقدامه وهي تسابق النبع، ضحكاته وهي تتسلق الأودية القريبة، وعيونه الملتهبة تحت حرارة الشمس. وحين انتشلوا جثته من أسفل الجرف، مكدسة بالبياض، مطوية على نفسها، كنوم الدببة في الشتاءات، حزنت كثيرًا، لم أتوقع يومًا أن الموت سيطرق باب هذا الطفل، ويسرقه من نزهاته.
أتذكر المرّة الأولى التي لثمت فيها فمه، كم كان فمه طريًا وناعمًا، وأصابعه تنسلّ إلى جسدي بخوف وتوجّس. كنا ممددين فوق العشب، والشمس تحرس الهواء الخافت الذي تحمله الريح إلى وجهينا، فتفوح من شعره رائحة الأرض، يصغي ويئن، وفي الابتسامة الخجولة التي ترتسم على محياه، أرى شريط حياتي يمرّ بسرعة، كأني أمام شاشة عرض، والمشاهد تتراءى ببطء.
كان زين صديقي، يدافع عني أمام شبان القرية، ينده عليّ من بعيد، حين يلمحني مارًا بجسدي المخطوف، يهرع إليّ ويمسكني من يدي لنسرق توت جارنا البخيل، والأعور.
كان مشاكسًا بشراهة، يقفز ويجري ويهرول هنا وهناك، يزرع اقدامه في أتربة الحدائق، فوق الينابيع، قرب الأشجار، في كل مكان في آن، كأنه يتغذى على القفز.
واليوم، ها هو يرقد في قبرٍ ضيّق، لا يتسع لرغباته الكثيرة ومخيلته المجنونة والمحمومة، وكل نزهاته التي قمنا بها معًا
هذا الطفل الذي استمتعت بمشاهدة بوله الصافي، متخذًا طريقه في الحقل، الطفل الذي لطخت قمصانه البيضاء بالوحل، ورشقته مرات كثيرة بالحجارة، كي اثنيه عن سذاجته، وضحكت على نكاته في الايام التي لم أكن فيها صافيَ المزاج، رغم شقاوته الفجّة أحيانًا ومزاحه الثقيل.
زين، الذي تعرفت على قسمات جسده، ونعومة الجلد الذي يقيم فيه، ولمست مواضع كثيرة فيه وبحثت عن رائحته، عن الطراوة التي يحملها في شقوقه. هذا الجسد اللدن، الذي لهوت معه، أكثر مما لعبت مع الدمى، واحتضنته كل دقيقة، وحرسته بيديّ الاثنتين كي لا ينطوي على نفسه ويغيب في البعيد.
واليوم، أراه بجسد أكثر انكماشًا، أرى بياضه باهتًا في هدنة هذا القبر، مرميا إلى أسفل، بلا شجرٍ ينمو فوقه، ولا ينابيع تمكنه من اصطياد الماء الذي طارد فيه وجهه طويلًا.
هذا الوجه المدمر الآن، الغائب عن اللمس، البعيد عن طفولة عايشت كلّ ما تحتويه، لحظة بلحظة، يومًا بعد يوم، حتى اختفت في الأقبية البعيدة، واتخذت سيقان جديدة، في بلاد الغرباء.
كان الموت رجلًا طويلًا، أقيس ظلال جسدي به، وكان زين، وردة الحدائق المسوّرة جنب دارتنا، تحمل رائحتها ، أشجار الليمون كلّ صباح، إلى وسادتي كي تطمئن روحي.
وردتي اليوم ذوت، وأشجار الليمون في بستاننا، التفّت على نفسها، كي لا تحمل روائح الغرباء فيها، ولا تطلّ على شيء، سوى الظلال التي تطفو، بعدما يعود كل طفل إلى أمه، في آخر الليل.