ﭼـيوم وجميل- مقطع من رواية الشقة في شارع باسي
|راجي بطحيش|
<p class="has-drop-cap" value="<amp-fit-text layout="fixed-height" min-font-size="6" max-font-size="72" height="80">مع أن جميل كان قد تجاوز عقده الخامس ببضع سنوات، إلا أنه كان يميل بشكل تلقائي، ومن دون تفكير بخيارات أخرى متاحة، إلى الرجال من أجيال تفوقه عمرًا. ومع أن هذه الأجيال، ومع تدفق السنوات، كانت تركبها العلل المختلفة بفعل الطبيعة، إلا أنها كانت تمثل له احتمالات صيد ثمين. المتقدم بالعمر عادةً ما يحمل النفوذ والقوة الاجتماعية، والاستعداد على تحمل الكثير و”ابتلاع الموس” كي لا يبقى وحيدًا، أو كي يحافظ على وهم أنه ليس بوحيد. والأهم من ذلك، أن الرجال الپاريسيون في مثل هذه الأجيال المتقدمة عادة ما يمتلكون شقة في موقع هام من المدينة. ولكنه في تلك الليلة دغدغته فكرة بدت شبه مستحيلة ساعتها: أن يسرق ﭼـيوم من ﭬـاليري، على الرغم من أنه صغير السن، ولو من سبيل الانتقام من ﭬـاليري على جرائم لم تقترفها، والتسبُّب بفضيحة في “الشلة” يكون هو نجمها. لكن هذه الأفكار، وبالتالي المهام التي وضعها لنفسه، كانت تتنافى جذريًّا مع التوازنات التي كان يحرص على الحفاظ عليها في علاقته الدقيقة مع ﭬـنسان، حيث أنها تشكل تلاعُبًا صريحًا بحياته الهشة، قد تلقي به خارج الشقة إلى الأبد، تلقي به إلى المجهول بتعبير أدق.
بينما كان الجميع يجلسون على الأرائك المنخفضة، يحتسون النبيذ ويلعقون الأمخاخ والأرانب كأنها قطع تاباس إسباني غير مترابطة، ويتحدثون عن رحلة أن ماري إلى غينيا الجديدة التي كان يظن حتى يومها أنها تقع في قارة أفريقيا، كان يقف مع ﭼـيوم على الشرفة للتدخين، ضمن استراحات متقاربة ومحاولة بناء تحالف ودي معه ضد كبار السن المملين هؤلاء، وأحاديثهم وبحثهم الدؤوب عن معنى حياتهم في أماكن نائية وتعيسة. لكن ثمن ذلك كان باهظًا. حيث سرد عليه ﭼـيوم كل المعلومات المبتذلة التي يعرفها عن فلسطين والصراع والاحتلال والحواجز والجدار، والأفلام الفلسطينية التي شاهدها، والمظاهرات التي شارك فيها ضد مجازر غزة وحلب، وأنه كان يحب فتاة لبنانية مارونية في الجامعة لم تكن تبادله نفس المشاعر، وكيف صدته مما أدى به إلى ترك الجامعة والإصابة بالاكتئاب -وإن كانت كلمة اكتئاب في پاريس تستخدم بشكل مكثف، وإن لم تكن غالبًا مخلصة لتداعياتها الإكلينيكية- وفي نهاية كل وصلة كان يقول له: “C’est compliqué”.
نسي جميل، أو كاد ينسى، كيف تبدو أجساد الرجال الشبان في مثل هذه الأجيال. كما لم تسعفه فرنسيته العرجاء على عقد أي تحالفات مع ﭼـيوم، حتى أتفهها مثل: لماذا لا نشرب الكافا بدلًا من النبيذ الفرنسي الأحمر؟! كان جميل، في أثناء ثرثرة جيوم حول نضالاته التافهة، يحاول تخيل جسده عاريًا. كيف يبدو صدره، ذراعيه، انثناءات خاصرتيه، مؤخرته؟ هل يستخدم شرجه في أمور تتجاوز التغوُّط، وكيف بالضبط؟ كيف تنقبض وتنبسط مؤخرته وهو ينيك؟ وكيف تبدو الأيور في مثل هذه السن: ناعمة، ساذجة، مليئة بالحليب عديم الذاكرة، ينتظر لحظة انسكابه العبثي. دون ألم. دون وجع. ودون حساب لما تبقى من سائل ووقت. حاول جميل أن يتذكر نفسه في مثل هذا الجيل؛ هل كان يتفاعل مع شريكه وتنصهر روحه فيه في حال تحوُّل اللقاء الجسدي إلى لقاء روحاني جارف، أم أنه كان ساذجًا وأبله؛ لا يولي المعاني الشعرية للأفعال الجنسية أية أهمية؟ كان من الصعب عليه تذكر ذلك أو حتى تخيُّله. أراد إيقاف ﭼـيوم عن الثرثرة قبل أن تناديه ﭬـاليري، أراد أن يصرخ في وجهه: “أريد أن أمص لك.. هنا على هذه الشرفة.. أريد أن أركع على هذه الأرض وأمص لك.. أمامهم جميعًا”. لقد تعلَّم جميل في العقد الأخير، أن المتعة الناجمة عن عملية المص بالنسبة إلى الطرف المُنفِّذ، هي متعة استعارية فقط وليست جسدية، فيها يقبض المُنفِّذ على حركة الآخر، يمتص روحه ببطء ويسحب خيوطها خيطًا خيطًا إلى أن تندلق داخل فمه، دون قدرة على الفرار حتى من اللحظات التالية التي يتجاهلها الجميع، من لحظات الندم! شعر جميل أن بإمكانه إخضاع ﭼـيوم فقط من خلال خطوة تكثيفية كهذه. فإما أن يتعامل معها الحضور بفكاهة وتفهُّم، مجبوليْن بقليل من الغواية والرغبة بالإنضمام، وإما أن تفرط تلك الخطوة كل العقد. أراد جميل للحظات أن ينهره ويصرخ في وجهه: “كيف تنام مع هذه الكلبة؟ كيف تشعر بالرغبة تجاهها أصلًا؟!”