في غرفة العنكبوت (9) / محمد عبد النبي

أرتبك وأغتاظ قليلًا كلّما سألني أحدهم عن المرة الأولى، وكأنّ لها

قيمةً خاصةً. وكثيرًا ما أرد بسؤالٍ آخر عمّا يقصد بالمرة الأولى،

أهي أول حلم، أم أول مداعبة، أم أول قبلة، أم أول ملامسة لجسم

عارٍ؟ لدى كلِّ إنسان عددٌ لا نهائيّ من المرات الأولى. وطبعًا

كان السائل يجدِّد مقصده بأول ممارسة كاملة، هنا أستدعي رأفت،

وحكايته الجاهزة عندي، التي ضبطتُها وهذَّبتها مع الأيام، وصرتُ

أحفظها كأغنيةٍ قديمةٍ تتدفق على لساني من غير تفكير.

كنتُ في السادسة عشرة تقريبًا، خُطّ لي شاربٌ أخضرُ قبيحٌ،

 وغلظَ صوتي حتى صرتُ أستنكره عندما أتكلم، ولا تكف الأحلام

الموجعة عن زيارتي، فأتقلب فيها مع رجالٍ من كل لون، وأصحو

وقد ابتلّت ثيابي الداخلية بالبقع اللزجة، أغسلها بماءٍ دافئٍ، واقفًا

أمام حوض الحمّام، لخجلي من أن تنتبه أمي إلى مغزاها. رغم أنها

كانت أبعد من أن تنتبه إلى شيءٍ، أو إلى تلك اليد الخفية التي تعيد

تشكيلي من الداخل والخارج. عادت للتمثيل، وحصلت على أدوارٍ

حقيقيةٍ، بفضل ما بذلته خالتي حسنية من أجلها. خالتي التي صارت

المطربة حُسنى، وعلا نجمها قليلًا، وهجرت ملاهي الدرجة الثالثة،

وسجّلت أكثر من أغنية للإذاعة، وبدا أن المستقبل يبتسم لها، دون

أن تهتم هي لا بمستقبلٍ ولا بماضٍ. كنتُ أسمع أمي تحذرها من

الزمن، ومن عواقب الاستهتار مع الرجال، وتوبخها بأغلظ كلامٍ

لتعاطيها بعض المكيّفات الغريبة كالأفيون. ولا تستجيب الأخت

الكبرى، إلّا بالاستهانة والضحك والغناء. كنتُ أكره خالتي في تلك

الأيام؛ لأنها من اختطفت أمي مني، وأرسلتها إلى الأستوديوهات،

حيث يلونون وجهها، لتقف أمام الكاميرا فتتظاهر بأنها امرأةٌ أخرى.

تنتقل بسرعة البرق بين كذبةٍ وأخرى، وفي استراحاتها السريعة

تقبّلني، وتعطيني نقودًا، وتتأملني قليلًا كأنها تستغربني، وسرعان

ما تغيب من جديدٍ.

كنتُ مراهقًا بدينًا، أكلّم نفسي في خواء شقة عابدين الواسعة.

مهما فتحت التليفزيون ورفعتُ صوته، أو جلستُ أخربش خواطري

الحزينة في دفاتري السرية، أو تخيلتُ أصدقاءً غير مرئيين أحكي

لهم عن أوجاع روحي واختناقي من كل شيء، كان يمكنني أن أشم

رائحة الوحدة تدور معي بين الغرف. ثم ظهر رأفت بعد غيابٍ

طويلٍ، أتى فجأة في ظهيرةٍ لافحة الحرارة، عندما يودّ الواحد لو

خلع ثيابه كلها وطلع من جسمه نفسه ليهرب من ثقل الرطوبة.

سمعتُ طرقًا على الباب، ففرحتُ، وخفتُ.

ارتبكتُ حين رأيتُه واقفًا يمضغ ابتسامته أمام الباب. كنتُ قد

توقفتُ عن زيارته في الورشة منذ فترة طويلة، ونسيتُه تقريبًا،

وكانوا يرسلون الإيجار مع أحد الصبية. سلّم عليّ، وقال إنه أحضر

الإيجار لماما، ويريد أن يبلغها رسالةً من صاحب الورشة. قلتُ إنها

غير موجودةٍ. سمحَ لنفسه بالدخول، وجلس على كنبةٍ، وطلب شايًا،

وهو يُخرج عُلبة سجائره من جيب قميصه الكاروهات الخفيف.

في المطبخ، كنتُ أحدّق في الماء الذي لا يريد أن يغلي، وأستعيد

لقاءاتنا المسروقة في المخزن، فتغزو بدني جيوش نملٍ وحشيٍّ.

أحسستُ أننا لو كررنا ما اعتدنا عليه هنا، ربما تنهدّ الدنيا، أو ربما

ينشق سقف البيت، وتظهر السماء من فوقنا. كنتُ أتساءل إن كان

سيحاول معي، ولا أعرف إن كنتُ سأفلح في مقاومته.

كان يشرب الشاي، ونحن نتظاهر بأن كل شيءٍ طبيعيٌ، نلعب

دور الضيف ومضيفه في صمتٍ وحرجٍ. عزم عليّ بسيجارةٍ،

 فهززتُ رأسي شاكرًا. سألني عن أحوال المدرسة، فأجبتُه وأنا

أتطلع نحو صورة لأبي على الجدار الذي خلفه.

داخل أولى ثانوي السنة الجاية.

طول عمرك شاطر يا هاني.

حين شرب آخر قطرةٍ من الشاي، وأطفأ سيجارته في المحارة

الكبيرة ذاتها التي كان يستعملها أبي، نهض، واقترب مني، حتى

جلس بجانبي على مقعدٍ لا يتسع لاثنين. في غرفتي رأيتُ جسده

كاملًا وعاريًا تمامًا لأول مرةٍ. كان أجمل مما تخيلتُ. توزَّعت

الشُعيرات على جلده شاهق البياض في خطوطٍ وتكويناتٍ سحرتني،

فكنتُ أبتعد برأسي عنه قليلًا لمجرد أن أتأملها، وهو لا يتوقف عن

تقبيل كل موضعٍ يطوله مني بشفتيه الممتلئتين.

المرة الأولى التي دخلني فيها رجلٌ ما. كان ألمي مختلطًا بالرعب

من أن تصل أمي فجأةً، وبلذة امتلاكي لرجلٍ أخيرًا. لم أشعر بالمرة

أنَّ شيئًا في داخلي انكسر، أو أنني فقدتُ معنى كبيرًا كالكرامة أو

الشرف أو الرجولة، بل كأن العكس هو ما حدث، كأنني استعدتُ

شيئًا كان ضائعًا مني، التأم كسرٌ ما، مثل دُميةٍ مكسورةٍ رُزقت بمن

يضم أجزاءها معًا، فعادت إليها الحياة، وصار بوسعها الآن أن

تتكلم وتتحرك وترقص وتغني.

 بعد أن قذف لاهثًا، ضحكَ أو كتم ضحكةً صغيرةً كأنها شهقةٌ،

ثم نهض عني مستحمًّا بالعرق ومحمّر البشرة، ومبتسمًا في حرج،

وهو يواري عورته بين يديه. عاد من الحمّام بعد دقائقَ معدودةٍ،

وكنتُ عدتُ إلى ثيابي الداخلية. لمحتُ على وجهه تعبيرًا غريبًا

كأنه مشفقٌ عليّ قليلًا، أو كأنه فاز في مباراةٍ استمرت لسنواتٍ

بيننا، لكنه يخجل الآن من فوزه هذا، ولا يدري ماذا عليه أن

يفعل به. ارتدى ثيابه الخفيفة في عجلةٍ، ووقف قليلًا أمام المروحة

مُغمض العينين، وهو يمشط شَعره بمشطٍ أسود لا يغادر جيب

بنطلونه، ثم التفت نحوي، ورمى إليّ بقبلةٍ في الهواء. كانت إشارة

الختام التي سأعتاد عليها فيما بعد. قال مبتسمًا:

لازم أطير.

قبل أن أفتح له الباب، احتضنتُهُ بقوَّةٍ، وربما أكون قد تمنيتُ

عندها ألّا يذهب، أن نعاود الكرّة من جديدٍ، لمجرد ألا يتركني

وحدي. قبّلتُ شفتيه ببطءٍ شديدٍ، وقلتُ له عبارةً ساذجةً، لا أذكرها

الآن، ربما قلت:

إوعى تسيبني يا رأفت!

ضحك ضحكته الصغيرة، وقبّل خديّ بخفةٍ، قبل أن يُدير مقبض

الباب بهدوءٍ، ويخرج. سمعت خطواته تثبُ على السلالم بلهفٍة، مثل

مَن أُطلق سراحه أخيرًا.

بعد أسابيع قليلةٍ من زيارة رأفت الأولى لي، حدّثني أخيرًا عن

تجاربه السابقة. كنا واقفيْن أمام سينما الكورسال، في ظهيرة يوم

أحدٍ حارٍّ، نشرب كوكاكولا وندخّن، حين أشار لموضعٍ غير بعيد

وأخبرني بأنه، في هذا المكان نفسه، التقى لأوّل مرة بالكهل الذي

دعاه لمشاهدة فيلم معًا، ثم علّمه بعد ذلك كل مُتعةٍ قد ينالها رجلان

منفردان.

حين التقى بمعلمه الأول ذلك، كان رأفت ما زال غشيمًا فجًّا،

غير أنّ ذلك الكهل رأى فيه البذرة الجيدة، فتعهده بالرعاية. قال

رأفت إن ذلك الرجل كان مثل إسفنجةٍ تمتص كل قطرةٍ بداخله، من

غير أن يشبع أبدًا، وكان دميمًا، له حدبةٌ واضحةٌ أعلى ظهره يطلعُ

منها شَعرٌ بشع. ثم تركه رأفت بعد تعارفهما بنحو سنتين، لم يعد

يذهب إلى المواعيد، ولم يكن الكهل يعرف طريقًا للوصول إليه،

فعاد بعد يأسه للبحث عن غيره في الأماكن المعتادة، إلى أن لمحه

رأفت مع شابٍ آخر بعدها بشهورٍ، بالقرب من ميدان رمسيس.

هجر مدربه الأول، لكنه لم يهجر اللعبة نفسها، وقد انفتح أمامه

ملعبها السري المترامي، في أماكن الصيد، فأخذ يتجوّل فيها بمهارة،

معتمدًا على ثروته المُكتشفة للتو من وسامةٍ وفحولةٍ وخبرةٍ زوده

بها الأحدب. تعلّم كيف يمسح الأجواء من حوله بدراية المستكشف،

فيقع على النظرات الجائعة، ليستغل أصحابها، يستخدمهم في عتمة

 دور السينما أو في مراحيض عامة يتواطأ حرّاسها معهم، أو بين

جدران آمنةٍ إذا أسعده الحظ بصيدٍ طيّبٍ. كان يمارس شبه غائبٍ

عما حوله، وربما يتخيل نفسه يضاجع امرأةً. المهم أن يقذف

ويرتاح، وحتى القبلة لم يعتدها إلّا بالكاد، يخطفها خطفًا دون أن

يفتح فمه.

لم يكن رأفت كثير الكلام، أظلُّ أنا أثرثر، عسى أن أنجح في فكّ

عقدة لسانه، وهو يسمع مبتسمًا وشاردًا. أكلّمه عمّا أقرأ من كتبٍ،

وعن الشِّعر الذي أحاول كتابته، على أمل أن يطلب مني أن أقرأ له

شيئًا منه، ولا يبدو عليه أيُّ اهتمامٍ. يدخّن، ويومئ برأسه، محتفظًا

على الدوام بابتسامته الماكرة تلك، بينما يتسلل إلى ثيابه قطعةً

بعد أخرى، حتى أنتبه فجأةً إلى أنه قد صارَ مُستعدًا للذهاب. أكتم

رغبتي في الخروج برفقته، لأنني صرتُ أتوقع حججه الجاهزة

للتهرّب. استطعت إغراءَهُ، بين الحين والآخر، بدعوتي له للذهاب

إلى السينما أو تناول الغداء. كنتُ ألاحظُ توتره وحرجه في نزهاتنا

القليلة معًا، وكلّما حاولت أن أمسك يده أو أن أضع ذراعي حول

خصره ابتعد بسرعةٍ وهو ينظر إليَّ في لومٍ، ويصيرُ أكثر حرصًا

على ملاحقة الإناث من حوله بنظراته، مثل مَن يدرأ عن نفسه

شُبهةً خفيَّةً.

ثم صرتُ أقدّم القرابين إلى صنمي الحيّ؛ هدايا صغيرةً على

قدر طاقتي، مرةً قميصًا مزركشًا، ومرّةً حزامَ جلدٍ طبيعيٍّ بإبزيمٍ

معدنيٍّ مزخرفٍ، أو بعض الثياب الداخلية عندما لاحظتُ الثقوب

والمزق تتكاثر في أطقمه القديمة. وكان يقبل هداياي متظاهرًا

بالضيق:

ليه بس تكلّف نفسك؟ مفروض أنا اللي أجيب لك!

ثم يبوسني  ، ويحتضنني، فأشعر بالانتصار عليه رغم كل

شكوكي، وأنوي كتابة قصيدةٍ عن ولدٍ يشتري المحبة.

بين دفاتري وكتبي، بعيدًا عن رأفت وأمي والجميع، كنتُ أصنع

من وحدتي شيئًا آخر، شيئًا قد يبدو مُطمئنًا ومستقرًا ولو لساعاتٍ

عابرةٍ، قبل أن يغلبني الضجر، وأشتاق للتحدّث مع أيِّ شخصٍ، ولو

كان متخيلًا. كنتُ أتحدَّث مع هاني الآخر، وقد انقسمتُ اثنين، فعلى

ناحية هناك هذا المراهق العاشق الذي ينتظر موعد وصول عشيقه

الجميل في قلقٍ ولهفةٍ، متطلعًا من الشرفة نحو أول الشارع، ثم يعود

للداخل ويدقق النظر في المرآة مُفتِّشًا عن شعرة أفلتت من موس

الحلاقة فوق شفته العليا أو على خده، يُلقي نظرةً على طبق الفاكهة

أو الحلوى، ويلمس ملاءة السرير مُتفقِّدًا نظافتها. وعلى الناحية

الأخرى يقفُ هاني البريء الطيب المهذَّب، لا يقلِّدُ الشياطين الذين

يهربون من المدرسة، ويقفون على النواصي يعاكسون البنات،

يذاكر دون إلحاحٍ من أحدٍ، يضع ثيابه المُتسخة في الغسّالة ذات

 المروحة ويملؤها بالماء ومسحوق الغسيل، وينتظر حتى يعصرها

وينشرها بنفسه، ويرتب تلك التي أعادها المكوجي في مواضعها

من دولابه ودولاب أمه، التي تمر بالبيت كضيفةٍ عابرةٍ. صرت

أكثر من شخصٍ، صرتُ أنا نفسي أبي وأمي وأخوتي وأسرتي

كلها.

وبين الحين والآخر يغلبني الإحساس بالذنب، والخوف من

حساب الله وعقابه. فأُنهك نفسي بالصلاة والصيام والدعاء،

والبكاء ساجدًا كل فجرٍ، عازمًا على التوبة، وعلى ألّا أقترب من

رأفت، أو من أي رجلٍ آخر. أنهض في الظلمة لأتوضأ، وأذهب

لأصلي الفجر في جامع جنبلاط الأثري الجميل غير البعيد عن

بيتنا. وبعد الصلاة أقرأ قليلًا من القرآن، متجاهلًا نظرات بعض

المصلين من جيراننا الذين يعرفون عمل ماما، ولعلّ بعضهم سمع

من جيراننا في البيت تلميحاتٍ إلى أنني لستُ رجلًا.

كنتُ أتمشَّى قليلًا في براح الشوارع وسكونها النادر، مُسبِّحًا

ومُستغفرًا. تكاد الدموع تنفرط من عينيّ في نداوة أول الصبح،

بينما أنشدُ بصوتٍ هامس:

هل تخذتَ الغاب مثلي منزلًا دون القصورْ

فتتبعتَ السواقي، وتسلقتَ الصخورْ

هل تحمّمتَ بعطرٍ، وتنشفتَ بنورْ

وشربت الفجر خمرًا في كؤوس من أثيرْ

متخيلًا شوارع حي عابدين قد تحوّلت إلى حقولٍ فسيحةٍ، لا

يسكنها من مخلوقات الله إلاي، أتتبع سواقيها، وأتسلّق صخورها.

أسير حتى يطلّ أوّل نور النهار، متذوقًا لذة الندم في فمي كأنها

حلاوة الإيمان، وداعيًا لأمي هي أيضًا بأن يتوب الله عليها، ولو

اضطرني ذلك إلى ترك المدرسة والعمل في أي مهنة بيدي.

نوبة، قد تبلغ عشرة أيام أو أسبوعين. أكون خلالها أكثر تركيزًا

في مذاكرتي وأغزر إنتاجًا لقصائدي الحمقاء التي تهيمُ بسر الوجود

وابتسامة الفجر. نوبة، تظهر ثم تتبدد ببطءٍ، عندما يهتز نظامي،

وأرتبك لسببٍ مجهولٍ، عندما يتسربُ سائلٌ ثقيلٌ وداكنٌ إلى

داخلي، كأنه الضجر أو الكسل أو الرغبة العارية في العصيان،

فأفوّت صلاة الفجر وأنام، ثم أغيب عن المدرسة، وأتصيّد لأمي

الأخطاء في وقتها القليل الذي تقضيه في البيت. أختنق بالنقمة

عليها وعلى كل شيءٍ، فأوجّه عبارةً مُهينةً لها وهي على وشك

الخروج. فترميني بنظرةٍ حارقةٍ، ثم تذهب دون ردٍّ. لا وقت لديها

لتضيّعه معي.

خلال تلك النوبات، كنتُ أفلحُ في التملص من رأفت، حتى

وصلتْ قطيعتي له ذات مرةٍ إلى شهرٍ كاملٍ، كنتُ أثبّتُ نفسي

 خلاله بتذكر عيوبه وجهله وفظاظته، وأستعيد ممارساتي معه

باشمئزازٍ لذيذٍ. إلى أن رأيتُه ذاتَ يومٍ واقفًا أمام باب مدرستي

ينتظر خروجي، ارتبكتُ، وخجلتُ، كأنه ذنبي، وقد تجسّد شخصًا

مرئيًا للجميع تحت شمس النهار. اقترب مني بخفة الغندور الواثق،

وسلّم عليّ باسمًا، فتح كلامًا، وعزمَ بسيجارةٍ، فرددتُ يده، وأنا

أتلّفت حولي، ثم سألته دون أن أنظر إليه:

عايز إيه يا رأفت؟!

عايز أشوفك وأطمّن عليك بس. انت خلاص بقيت زي أخويا يا

هاني. ولا انتا شايف غير كده؟!

ووسط حيرتي وغيظي، ألمح بداخلي قطرةً منوّرةً تختلج، تشبه

فرحًا به، بحضوره إلى هنا، بوجود شخصٍ واحدٍ يهمّه أمري، إلى

درجة أن يأتي بحثًا عني إذا تهربت منه. أقول لنفسي ربما لم تسقه

إليّ تلك الرغبة الدنيئة؛ فالأجساد كثيرةٌ، وهو يعرف كيف يحصل

على واحد منها متى شاء، لكنه بحث عني أنا وانتظرني أنا، ولعلّ

الحب ليس مجرد كلمةٍ صغيرةٍ في دفاتر خواطري.

سرتُ معه كالأسير، وأنا أردد بداخلي أنني قد أستطيع شدّه إلى

ناحيتي بدلًا من أن يشدني هو، قد أستطيع إقناعه بالتوبة وتقوى

الله ونسيان تلك المعصية البشعة التي يُزيِّنها لنا الشيطان. غير

أنني أخجل من الحديث معه عن المعاصي ووسوسة الشياطين،

ينعقد لساني ونبقى صامتين، بينما نبتعد عن المدرسة ونقترب من

بيتنا، ومن باب البيت إلى باب شقة الطابق الثالث، ومنه إلى غرفة

الضيوف، ومنها إلى غرفة نومي، حيث أتعرّي، وأستسلم.