عن الموت و الآلة: ثلاثة مشاهد/ دانة داوود

| دانة داوود |

سأعرّي نفسي: اليوم أكتب للمرة الأولى بلغتي “الأم”، هكذا قالوا لي، أنني أملك لغة أم، فضحكت و ابتعدت عنها، المفارقة أنني لم أقترب منها حتى أبتعد.  حتى دفتر يومياتي الذي أعرفه و يعرفني جيداً (أو هكذا يخيل لي)  يصعّب الأمر علي، فصفحاته من الجهة اليمنى خالية من السطور.   أشعر برغبة بالبكاء، فالمسافة موجعة. خط يدي أصبح الآن غير مقروء، أتعثر بين كل كلمة و أخرى. كيف لكم أن تتحملوا معي ثقل اللحظات التي أتوقف فيها للبحث عن الكلمات؟ لحظات ثقيلة تخنقني. 

اليوم أكتب للمرة الأولى بلغة بعيدة، اللغة تتطلب هذه المسافة و هذا الألم، اليوم أقترب لأبتعد. اليوم أكنب عن الموت.

المشهد الأول

فيديو على اليوتيوب بعنوان “ألة غسيل أوتوماتيكية تدمّر ذاتها”، كيف لآلة أن تدمر ذاتها؟ العنوان يوحي بأن الغسالة لها قدرة على تحديد مصيرها، و بأن الغسالة لها ذات، و بأنها تحمل موتها داخلها. كما يقول فرويد، الكائن الحي يرغب الموت بطريقته الخاصة. من وضع عنوان سلسلة الفيديوهات هذه اعتبر الآلة كائناً حياً يدمر ذاته بطريقته الخاصة.  آلية عمل الغسالة تكمن في جوفها الذي يلف و يدور ليحمل الصابون و الماء، و لكن جوفها  يمكن أن يحمل تدميرها أيضاً. هذا ما توضحه هذه الفيديوهات: آلة غسيل أوتوماتيكية تتوسط المشهد في باحة منزل خلفية، يقوم صاحبها بتشغيل محركها على أقصى سرعة و يفتح بابها الأمامي و يبدأ برمي أثقال مختلفة، ترتطم بداخلها الأحجار و الأخشاب و تزيد اهتزازاتها و ارتجاجاتها، و مع زيادة السرعة تصدر أصواتاً شبيهة بالصراخ. جدرانها تتهشم و تتكسر و تنبعج، و تبدأ بالقفز من مكانها حتى تقع على جانبها لتلفظ اهتزازاتها الأخيرة، ثم تتوقف عن العمل. يتخلل العرض ضحكات و صفير و تشجيع، الغسالة تحمل موتها.

وضعت رأسي على سطح ألة الغسيل، وشوشتني “أدور و موتي يدور معي”،

أجبتها “و أنا أيضاً”.

شاهد هذا الفيديو ملايين الأشخاص، حكم إعدام.

طابع فيتيشي يطغى على هذه الفيديوهات و من يشاهدها، يستمتع و يستلذ صاحب الفيديو بتدمير آلة تدريجياً ليستمر لدقائق عدة، و تعليقات المشاهدين تتفاوت بين الشعور بالراحة و الاستمتاع و بين الشعور بالذنب المفرط، كمن يشاهد فيلم إباحي أو أحد فيديوهات التعذيب كتلك التي في فيلم Videodrome.

“هل رميت قطة داخلها؟”

“الدقيقة 4:04، صرخة موت ألة الغسيل الأوتوماتيكية”

“هل تشعرون بالذنب مثلي؟ هذا سيء.”

“أشعر بالأسى تجاه الغسالة.”

“لقد رأيت فيديو التدمير هذا في المعرض المعاصر للفنون، كان  يعرض بجانب فيلم اباحي ياباني.”

“قاتل! #حياة_الغسالات_ذات_قيمة”

“هذا أنا في نهاية كل جماع”

أوتو-ماتيك، أوتو-إيروتيك.

فيديو آخر: تجلس امرأة على سطح آلة الغسيل، بينما يرمي رجل حجراً تلو الآخر، سيل من الارتجاجات و الاهتزازات يجري في جسدها.

إيروس و ثاناتوس يلتقيان في آلة.

المشهد الثاني:

الفيسبوك أخبرني البارحة أنني سأموت، وصلني إشعار بأنني أستطيع أن أختار من “سيرث” محتوى صفحتي و أعطاني خياراً آخر، بأنه سيمحي صفحتي أوتوماتيكياً بعد موتي. “هل أنت متأكد أنك تريد أن تختفي من فيسبوك بعد موتك؟” الفيسبوك يعلم أنني سأموت و أن صفحتي هي جزء من هويتي و ممتلكاتي، قمت باختيار الخيار الثاني بعد تفكير طويل، و ندمت. المشكلة الآن هي كيف سيعلم الفيسبوك بموعد موتي؟ ماذا لو لم يخبره أحد بذلك؟ هل سأبقى موجودة؟

“لقد قمت بطلب أن تغلق صفحتك بشكل نهائي بعد موتك…”

موتي ليس لي، صورتي التي كونتها في العالم الافتراضي ليست لي، لوغارثميات موقع فيسبوك لا تتدخل فقط بجمع اهتماماتك و تكرار الصور و الأشخاص و الاعلانات التي تراها الى حد الاستهلاك، بل لها يد أيضاً في موتك و ما بعد موتك.

“موتي يدور معي”

المشهد الثالث

سيارة لا تعمل، متروكة على أطراف أحد الطرق، لا أحد يكترث لها و لا تكترث لأحد. أراها دائماً و تسحرني، عندما أنظر باتجاهها أشعر بأن الوقت يمر بكثافة و بطء، أتخيل السواد المحبوس داخلها، ظلمة العالم كلها تختبئ هناك. لو نزل المطر، أعلم أن أجزاءها الميكانيكية ستتحلل ببطء و تصدأ، و لكن أعلم أيضاً انني سأموت قبلها.

لو فشل السيناريو الهوليوودي الذي يرجح فناء كوكب الأرض و نجاة البشرية على كوكب آخر، و فنت البشرية و بقي كوكب الأرض و ما عليه من آلات، اذا هذه السيارة المتروكة هي رؤيا لمستقبل محتمل.

لقد رأيت المستقبل.

فليفنى البشر، و يبقى كوكب الأرض و آلاته.