بركة دماء كوابيسي يغرق فيها لاجئ إيراني/ علي بدورة

| علي بدورة- أسم مستعار|

| اللوحة- دارين أحمد- ولادة من جديد- سوريا-2016|

عيناي الآن ساخنتان، فقط قلبي بارد؛ الدم الذي يدفئ القلب أو هكذا يفترض فاض إلى العينين وهول الصدمة أعمى البصر كما البصيرة؛ فمذ شاهدت تلك الصورة للاجئ الإيراني ملقى على الأرض كخرقة بالية وسابحا من رأسه إلى أخمص قدميه في بركة من الدماء في صورة لا تحمل أدنى مجاز، بل حقيقية حتى أكثر مني وأنا أشاهد الصورة، وعيناي طافحتان بالدم.

النوارس كما تبدو من النافذة لونها أحمر، الضباب، كما طعامي الذي أتناوله. كل ماحولي يستحيل أحمر. أفرك عيني علي أطرد الصورة ولونها من أفق بصري؛ لا يرحل الأحمر ولاتأتي ألوان أخرى أقل قسوة على النفس ومخاوفها. فقط أبكي وأنا أمضغ طعامي، وأحاول ألا يراني أحد وأنا أفعل ذلك، فحتى البكاء لأمثالنا هنا غير ممكن. إذا بكيت تدور دوائر شكوك الآخرين حولك وقد تغرق حينها ولأتفه الأسباب في بركة دماء شبيهة بتلك البركة التي غرق فيها اللاجئ الإيراني البائس.

بركة الدماء هذه على جدتها في حقيقتها النازفة كجرح لايسده إلا الموت، ليست جديدة على خيالاتي، هي تماما ذات البركة التي كنت أراها في كوابيسي منذ وصلت إلى هولندا قبل حوالي أكثر من عام وحشرت في مكان واحد مفتوح مع قرابة الخمسمائة لاجئ سوري في مخيم بائس للاجئين في مدينة زفولا.

هؤلاء السوريون لم يكونوا غريبين عني تماما، هم ذات الأهل الذين عايشتهم حيا ميتا لأكثر من ثلاثين عاما، وهربت منهم على عجل وتحت ليل مخافة أن يسبق السيف العذل ذات انكشاف باتوا إليه قاب قوسين أو أدنى. هناك في الشرق البائس على أنهم كانوا كثر لكني كنت أهرب منهم إلى غرفتي وحواري الضيقة وعوالمي السرية ما استطعت، لكن هنا ليل نهار ولأكثر من ثلاثة أشهر الكل حولك يحاصرك بالأسئلة والشكوك عنك وعن ماضيك وعن هويتك وأنت تحاول مستنزفا نفسك ردهم عنك وإزالة شكوكهم ما استطعت. تعرف حق المعرفة أن حياتك لديهم لاتساوي أكثر من ضربة سكين إما للاجئ يراك آلة للنيك يفرغ فيها استمناءه وسيغيظه تمنعك، أوللاجئ متعصب فار دمه غيرة على شرف أمة ودين مفترضين ويريد أن يدخل الجنة بدمك وعليه.

أما أنك في هولندا وتحت سلطة وإشراف هولنديين فهذا إلى الوهم أقرب. فأنت ترى رؤية العين لا رؤيا الحكاية كيف يترك اللاجئين الضعفاء لشأنهم وللاجئين المتنمرين ليتولوا أمر مايريدونه منهم، ثم وبعد أن تقع الفأس على الرأس يأتون ليضعوا الرأس في القمامة وليأخذوا الفأس إلى محل النجارة أو إلى مستودع الأخشاب.

دور جميل ولطيف تؤديه منظمة “كوا” الهولندية المكلفة برعاية شؤون اللاجئين ببراعة عز نظيرها، بل ومع ابتسامات مجانية  بلاطائل توزع هنا وهناك عل سبيل تزجية الضحايا والمحتمل تحولهم ضحايا عما قريب ليرشوا على جرحهم ملحا ويسكتوا.

اللاجئ الإيراني المثلي الذي يسبح في دمه في صورة الخبر عن محاولة قتله كما شاهدته قبل أيام، تلقى كما هو مفترض كمية كافية من تلك الابتسامات جعلته يطمئن إلى أن ما خلفه وراءه من مخاوف الشنق والدم والموت لن يحاصره هنا في هولندا، لكن ولسذاجته وثقل أحلامه وآلامه لم ير تلك الابتسامات كما هي في حقيقتها المرة كوردة على قبر لا تكسر قلب الأحياء ولاترد ميتا.

لذا هاهو يفاجئ وهو يحتفل بعيد ميلاده في أيلول الماضي صحبة بعض أصدقائه بتنمر لاجئ تونسي عليه لرفضه بيعه بعضا من حشيش لايملكه ثم برميه سابحا في بركة الدماء إياها لساعات قبل أن يأتي أصحاب الابتسامات إياها لنقله إلى مشفى أنقذته من موت محقق، ولتحضر الشرطة حاملة الشارع بالقتل والراغب به على الحقيقة إلى السجن, ولتبدأ تحقيقات لها أول وليس لها آخر. وقد لاترد للضحية حقا ولاتغيرلها وضعا على رغم نقلها إلى مخيم آخر أكثر أمنا أو هكذا يظن.

من المؤكد أن ذلك اللاجئ الإيراني لم يدر في خلده وهو يكشف مثليته على الملأ بحثا عن سلام ما فقده منذ أن وعى نفسه وهويته الجنسية في بلاده أنه هنا كما هناك سيبقى رخيصا في عين طالبي اللجوء الآخرين، ومجرد رقم للاجئ آخر في عيني المسؤولين عنهم. مثليته ليس امتيازا ولارخصة، بل كما كانت قبلا تبقى الآن؛ نقطة ضعف قاتلة ومرة كما سيختبر لاحقا وهو يسبح باردا في دمائه الساخنة على أرض غريبة ويصور ولربما تأتي “كوا” بابتساماتها وتلتقط سليفي معه وهو ممدد هكذا أيضا؛ فهذه صورة نادرة لاتفوت للحديث عن معاناة المثليين والهوموفوبيا والشفقة وضرورة كذا وحتمية ذاك وغيره مما لا تبرع “كوا” بشيء كما بمثله، بل وتنتظره بمناسبة وبدونها على أحر من جمر.

هذا كله لم يعرف سبيله إلى بال اللاجئ الإيراني المثلي لكنه استوطن بالي وأيامي المتوالية على مدار العام الماضي كله. فحتى عندما أغلق مخيم زفولا سيء الذكر والذاكرة وتم فرزي إلى مخيم درونتن ذي الرقم واحد في هولندا في خدماته ومساحته لم يتغير شيء في حقيقة الواقع الذي يسيل فيك وتسيل إليه ولا في ماتجره حقيقته تلك من مخاوف وضغوط وآلام.

فالشكوك والأسئلة حولك وحول ماضيك تتالت من الجميع حولك ودفعتك مجددا إلى الانزواء والتخفي. فاللاجئون وعلى عادة شرقية مقيتة لايعدمون سبلا لفظية أو فعلية ليفرغوا بها الهوموفوبيا الجمعية خاصتهم في كل حين على مبدأ ذكورة وطاقة جنسية فائضة يمتلكونها ويريدون استعراضها أمام الآخرين فضلا عن تصريفها.

والمخيم في درونتن على أنه يحتوي على نزل خاص لبضعة لاجئين مثليين تجرأوا على كشف هوياتهم الجنسية على سواهم، لكن أحاديث وإشارات باقي اللاجئين حولهم وحول نزلهم لم تشجعك إطلاقا على أن تهرب من وضعك المحاصر إليه، بالرغم من أنك استيقظت ذات فجر لترى سريرك غارقا في بول أحد شركاء غرفتك العراقيين ممن تفنن في إذلالك لا لشيء إلا لانطواءك وشكوكه، وبالرغم من أنك أحرقت سوار قوس القزح خاصتك بعد أن أسر لك أربعيني سوري في همس أقرب إلى الاغتصاب بأن هذا القوس قزح خاص بالذين “يحبون أن ينتاكوا”، فإن كنت أنا منهم كما يحدس فهو يريد ويعرف شلة من رفاقه يريدون أيضا!

هذا كله لم يصل إلى أسماع ال”كوا” ولايمكنك أن تفكر في إيصاله لهم، فهم ومع شكاوى أخف وطأة حول انتهاك باقي اللاجئين لقوانين معلنة ومثبتة من طرفهم مافتئوا يطلبون منك بعد تسويف وحل على هيئة نحر الطير بدل تركه للصياد ليقنصه بتحمل من تذمر ومدارة من تنمر.

مثليتك الجنسية التي حملتها معك من الشرق هاربا بها وبنفسك تحوي إلى أقليتك البادئ ذي بدء بها ألف باء اللجوء ضعفا خاما لن يخطئه من ينظر في عينيك. ضعف يسير في الدم، يفتت العظام، يلعثم اللسان، ويصل من عينيك إلى الآخرين. تحاول أن تنجح لتخفيه، أن تحب وتعطي لتخفيه، أن تهرب لتخفيه. تماما كما حاول أن يفعل ذلك الإيراني الأقلوي لمسيحيته أيضا والسابح في بركة دمائه في مخيم بلينخوفولدي الهولندي. والذي لم نعرف بخبر ماجرى له إلا بعد ثلاثة أشهر على الواقعة وفي خبر صغير على صفحة فايسبوك لمنظمة هولندية يفترض أنها تدعم اللاجئين المثليين.

فكل تلك السبل لحماية النفس وإخفاء الضعف وستره سواء بالعيش خوفا ومداراة أوعلنا وتجرأ؛ والهرب إلى ال”هنا” من ال”هناك” لم تمنح حياة ولم تحم نفسا، بل كانت إلى “الاستجارة من الرمضاء بالنار” أقرب، ولم تقف حائلا بين الواحد وبين إراقة دمه ساخنا رخيصا حتى لو في عيد ميلاده!