لا يتعلق الأمر بحياتي الخردة /أحمد سلمان

| أحمد سلمان|

مستقبلاً أنتظر حلول عامي الخمسين كي أستعمل جملة “علمتني الحياة” بثقة في افتتاحات أحاديثي مع الأصغر سناً. أكتبها بدنماركية ركيكة ضمن واجب موضوع عن حياتي الشخصية. أما الآن فلا أنتظر سوى سريان مفعول الكافيين في عروقي لأحصل على قليل من الطاقة أكمل بها بقية الواجب. أناجي نفسي. رافضاً كوب الشاي الذي قدمته لي أمي بكثير من الحب والحنان، آخذاً فقط قطعة الكاتو التي صنعتَها. كبرت أمي وتعبت، بشرتها منهكة ويداها متقشّبتان. أبتسم بحزن لها ولأني إلى اليوم مذ كنت صغيراً أستحي من قول الحقيقة بفشلها في صنع الكاتو والحلويات رغم وصفات برامج الطبخ التي كانت تحشو بها دفاتري المدرسية عبر أعوام. شكراً ماما على هذا الكاتو اللذيذ. إشارة المرور الضوئية المقابلة لنافذة غرفتي المكشوفة؛ تومض بتناوب ثلاثي اللون على الجدران البيضاء طوال الليل، أشكو اللاجدوى قلةَ حيلتي دون هذا التلويث البصري بستارة أو شرشف أو حائل ما. دور اللون الأحمر يرفع حدّة جنوني. هؤلاء لا يعرفون سوى الطابع الرومانسي لهذا اللون في بلاد الأبقار والخنازير المدللة، لم يشموا رائحته النحاسية يوماً وهو يسبح في الشوارع كمستنقعات المطر. ألجأ إلى لوحات غوستاف كليمت وفان غوخ ومارك شاغال حين ينتابني السخط والشعور بالقباحة، أتأملها لوناً لوناً بنوع من يوغا الاسترخاء وتصفية الذهن من أوساخ الذاكرة. لا وقت لشتم الحظ، لا وقت لصبّ اللعنات على أحد في هذه الساعة المتأخرة من الليل والألم. كل شيء يمضي إلى أسوأ، واللحظات السعيدة لا تكرر نفسها مرتين. حبذا لو أعثر على حبة أسبرين الآن. أتضرّع إلى فيفالدي أن يعالج صداعي المزمن، لا تفلح فصوله الأربعة. أجرب عياراً أثقل؛ بيتهوفن.. موتسارت.. تشايكوفسكي.. باخ! نعم، هذا ما أبحث عنه، باخ، العبقري. أتلمس في العتمة طريق أصابعي إلى علبة السجائر على الطاولة، أدلق بطرف يدي نصف فنجان القهوة سهواً، أتفاجأ بنفاد علبة السجائر، لا سجائر هذه الليلة! أفكر جدياً الآن بنطح رأسي في الجدار، وتهشيم القطع الزجاجية حولي تنفيساً عن بخار الغضب الذي يضغط أعصابي. إذاً هذه هي القصة، هذه قصة حياتي.. لا أربي في بيتي حيوانات أليفة، ولا أتنزه كل صباح في الغابة بصحبة كلبي ماكس، ولا يعجبني شتاء هذه المدينة البليدة، وكذلك لست مرتبطاً بفتاة اسمها آنّا ولست سعيداً بوجودي هنا معكم. ماذا أكتب بالضبط؟ التوقيت خاطئ، الساعة ليست التاسعة بل الثانية عشرة منتصف الليل، لم أكتب غير سطرين، وما زالت إشارة المرور تضيئ بكل غباء في الشارع الخاوي تماماً كمناطق حظر التجول. الأمر لا يتعلق بحياتي الخردة، أو أمنياتي المقصوفة من زمن طويل في ريف دمشق. لا داعي للخوف في هذا المكان الآمن البعيد عن ضرب الهاون وحفلات الرصاص. هنا هدوء مستفز، القهوة رخيصة وجيدة، الكهرباء لم تنقطع خلال خمسين عاماً، وأستطيع تحميل الأعمال الكاملة لدوستويفسكي ومشاهدة أفلام ستانلي كوبريك بدقة عالية. أتذكر سؤال الآنسة المذعورة ذاك الصباح إن كان لدي أقارب في حلب. أجبتها بالنفي متملصاً من صعوبة الإجابة الدنماركية التي يلزمها حبة بطاطا في الفم كي يخرج اللفظ صحيحاً. لم أحكِ لها عن صديقي مصطفى السرميني في حلب الدامية، الذي لا أعرف عنه أي شيء منذ سنتين يوم تناولنا عشرة أقراص فلافل ثم غادر بشكل نهائي من العاصمة. رغبة عميقة بالبكاء؛ أواريها بتصفح نكتة على فيسبوك. لو سألتني الآنسة قبل تسعة أشهر ما أكثر شيء أنتظره؛ لأخبرتها عن أفران الخبز وساعات الوقوف المكتظة على الطابور وسط الوحل ومشاجرات النساء، ولأخبرتها عن أمنيتي بالحصول على هوية خط عسكري توفر عليّ حرق الأعصاب من الوقت المهدور وعناصر الحواجز المجانين. لكن التوقيت خاطئ هذه المرة أيضاً. ينبغي الآن أنا أنسى كل هذا الهراء وأنهي الموضوع، لكن تأوهات الجنس التي تصدر عن نافذة جاري البولوني تشتت تركيزي. تعاودني ذكرى عبارات المديح على كتابتي من أصدقاء قدماء بعثوا إليّ برسائل مؤثرة على مسنجر واختفوا بعدها للأبد. أداعب مخيلتي بأحلام صدئة يبللها المطر وتدوسها أحذية المقاتلين وأعقاب بنادقهم في كل مكان من بلدي. سأكتب رواية جميلة جداً لن يقرأها أحد. أحلم. يلسعني عقرب الساعة الثانية بعد منتصف الليل. أشعر هذه اللحظة بصحو مفرط ومشاعر لزجة عصيّة على الترجمة. كيف أستيقظ باكراً بعد هذه الكمية من القهوة القوية؟ سوف توبّخني الآنسة بفظاظة على تأخري ولن أستطيع الدفاع عن نفسي كالعادة بجملة مفيدة عدا الاعتذار. يدفعني الكافيين إلى الماضي مجدداً، أوقف شريط الذاكرة عند لقطة العقيد الذي صفعني كفاً في شعبة التجنيد وشتم أختي التي لم تبلغ السنتين بعد. أقنع نفسي للمرة الثالثة أنه لا وقت لهذه المآسي والنوستالجيا. تصدمني صورة الفتاة الإيرانية التي أغرمت بها عن بعد في المدرسة واكتشفت البارحة أنها متزوجة وحامل. الساعة قاربت الثالثة. ليس مهماً أن أكتب عن حياتي الآن، ليس مهماً أن أقضم قطعة الكاتو الأخيرة، ليس مهماً ضجيج الجنس من نافذة جاري ولا وميض إشارة المرور الغبية ولا نفاد السجائر. ليس مهماً حلول عامي الخمسين ولا كابوسي المتكرر بأني أزور دمشق وأموت برصاصة جندي على حاجز المزة ولا استيقاظي غداً في الساعة الثامنة. لم يعد يهمني أي شيء، لقد فات الأوان حقاً، أنا ميت ولو لم يصدقني أحد. كيف أكتب لها كل ذلك بالدنماركية؟