في غرفة العنكبوت(35) / محمد عبد النبي
|في غرفة العنكبوت|
|محمد عبد النبي|
|دار العين- القاهرة، 2016|
بينما أنصتُ إلى حكايات كريم في ركننا من عنبر سجن طرة،
كان من المستحيل عليّ أن أحدد أين تنتهي الحقائق وتبدأ الخيالات،
فأحسده أحيانًا لقدرته على العيش في عالمٍ آخر، وحاولتُ أنا أيضًا
أن أتعلّم منه تلك المهارة، فأنجح بها في الهروب أحيانًا من الكابوس
المحيط بي ولو دقائق مختلسة كل يوم.
قال كريم إنه كان يكلّم الله طوال الوقت، من صغره، سواء
في سره أو بصوتٍ مسموعٍ. كان الله هو صديقه الأول، حتى
ولو كان حوارًا من طرف واحد، غير أنه سرعان ما اكتشف سُبلًا
كثيرةً يستطيع الله أن يهمس له بالأسرار عبرها، جملة يقولها أحد
العابرين في الطريق، فيستشف هو منها رسالةً خفيةً موجهةً إليه،
أو أوّل شيءٍ يجده في التليفزيون بمجرد أن يفتحه، أو حتى شقشقة
عصفورٍ تبدو كإجابةٍ على سؤالٍ طرحه في سرّه. وأحبّ أن ينصت
إلى صوت الله في كل ذلك، رغم أنه كان يعرف أنه ملعونٌ؛ لأنه
يفعل فعلة قوم لوطٍ، لكنه يعود ليواسي نفسه قائلًا إن الله هو مَن
خلقه هكذا، وربما يكون في ذلك حكمة ما لن يفهمها مهما حاول،
وربما يعينه على التوبة ذات يوم.
كان يحاول المواظبة على الصلاة، وصيام الإثنين والخميس،
واستعادة ما نسيه من كتاب الله، فيسأله خاله الذي كان يعرف
بفضائحه: “إنتا مصاحب واحد سُنّي ولاَّ إيه؟”. حتّى استقرّ على
السفر إلى القاهرة؛ بحثًا عن حياةٍ خاصَّةٍ به، بعيدًا عن أنفاس الخال
مدمن البانجو، وأمه التي تعيش على الصَدَقات رغم أنه رجلٌ ولو
بالشكل. وربما هجَّ بحثًا عن رجل حياته، الحلم الذي لا يفارقه مهما
جمع كتبًا عن التصوّف واستغرق فيها لساعات دون أن يفهم منها
الكثير، فلم تزده إلا ارتباكًا وبلبلةً. كان يقطع حكيه أحيانًا، وينظر
إليّ، ويسألني أسئلة من نوع:
تفتكر ربنا موجود جوّانا ولا برّانا؟
وحينما أردّ بمط شفتي ورفع كتفيَّ جهلًا، يتطوّع هو بتقديم
الجواب قائلًا:
الاتنين؛ وأصلًا مش فارقة.
لم يفته أن يأخذ معه تلك الكتب في رحلته للقاهرة، حيث نام على
الأرض في بيت ابن عمٍ لأمه، وافق على استقباله بين أبنائه حتى
يجد له سكنًا. وبعد يومٍ واحد من وصوله إلى القاهرة، كان كريم
يعمل مع الكابتن صلاح، قريبه ذلك، في كباريه صغير بمنطقة
التوفيقية في وسط البلد، اسمه أريزونا. وفي ليلته الأولى، أوقع
وهو يغيّر طفّاية السجائر زجاجة ويسكي بالشيء الفلاني، فانسكب
نصفها على الأرض. أصرّ مُدير الصالة على طرده، لكنّ الزبون
صاحب الزجاجة أنقذه، وعفا عنه وبقششَ عليه بعشرين جنيهًا،
وأعطاه شريطًا للمغني اللبناني جورج وسّوف؛ كي يشغّله له إلى
أن تحضر الفرقة وتبدأ الفقرات. كان ذلك الزبون هو فتحي التوني،
تاجر قطع غيار لا يحب شيئًا أكثر من اللعب بالبشر، وقد رأى في
الولد كريم مجرد فرصةٍ أخرى للتسلية والمرح.
في الأريزونا تعلّم كريم الكثير، واكتشف مع كل ليلةٍ جديدةٍ
تمر به هناك أن مسافةً بعيدةً تفصل بين ما كان يشاهده على شاشة
التليفزيون وما يدور حوله هنا. وفي أجواء وسط البلد أتقنَ لغة
العيون، واكتشف أنه حقًّا جميلٌ، وأنه ليس عليه أن يبذل مجهودًا
كبيرًا ليصطاد ويجذب ويغوي، يكفيه أن يكون على طبيعته، حتى
لكنته الطنطاوية كانت تعطي جرسًا مميزًا لصوته. وحفظ أغنيات
جورج؛ ليغنيها لفتحي التوني واقفًا بجوار مائدته في الساعات
الأولى من الفجر. وانكشف أمره بين العاملين في الكباريه، فلم
يبالِ. وكانوا ينادونه “ابن أخته” نسبةً إلى صلة القرابة البعيدة بينه
وبين كابتن صلاح. وحين تشّجع واعترض على هذا اللقب، أخذوا
ينادونه بألقابٍ أبشع مثل: الحتة والعجلة والبالونة، فقرر أن يترك
المكان، خاصةً بعد أن ترك بيت ابن عم أمه، واستأجر غرفةً في
شقةٍ مشتركةٍ للمغتربين بالعمرانية.
حين غادر الأريزونا ذات صباحٍ منعشٍ، وقد مسحَ بلاطه لآخر
مرةٍ، كان يحمل معه بطاقة تعريف فتحي التوني، يحملها في جيب
قميصه بالقرب من قلبه، ويطمئن على وجودها كل بضع دقائق،
كأنها طوق نجاته. وقبل أن يشرع في البحث عن عملٍ جديدٍ،
قرّر أن يذهب إليه في معرض قطع غيار السيارات الذي يملكه
بالقرب من سينما ريفولي، وحين دخل مكتبه الصغير ذا الجدران
الزجاجية، وجّه إليه الرجل منتفخ الوجه، مُضيِّقًا ما بين حاجبيه
الكثيفين المصبوغين بلون أسود لامع، نظرة تساؤلٍ كأنه لا يعرفه،
وحينما تجاوز الصمتُ الثواني المتوقعة، صاح فيه بصوتٍ غليظٍ
جافٍّ:
أفندم؟
دلو ماءٍ باردٍ، وانكبّ على كريم، لم يفهم، ولم يدرِ ماذا يقول،
هل من المعقول أن يكون قد نسيه تمامًا، وقد كان قبل أيامٍ معدودةٍ
يرسل له النظرات والغمزات، وكلما اقترب كريم من مائدته بادره
بالكلام الحلو،”عليّا النعمة انتا أحلى من الفاكهه دي”. والآن هذه
النظرة المستغربة، تلجلجَ الولد الجميل قائلًا بصوتٍ مختنقٍ:
أنا… أنا كريم. بتاع الأريزونا. الهوى سُلطان الهوى سُلطان!
فأجابه فتحي بنفس الخشونة والجفاء:
انتا عبيط يا بني ولّا إيه؟
أدركَ كريم أنه ينكر معرفته به لسببٍ ما، فأجبر نفسه على
التحرك، وهو يغمغم:
أنا آسف إني أزعجت حضرتك.
واستدار، وأمسك مقبض الباب الزجاجي، وقد انعقدت في حلقه
غصّة البكاء، ثم سمع الضحكة، الضحكة الخبيثة التي يعرفها جيدًا،
ضحكة الشيطان حين يستمتع بالتلاعب بضحاياه، توقفت يده على
المقبض، وسمع الصوت الخشن يستعيد نبرته الليلية وهو يناديه:
تعال يا واد يا كريم أنا باهزر معاك!
تواصلت ضحكات فتحي التوني طويلًا، من لحظة أن قبضَ
على يد كريم، وغادرا المعرض، وأخذا يتمشيان في وسط البلد:
لو كنت شفت وشك في المرايه ساعتها، يا دِيكي!
تناولا الغداء عند حاتي غير بعيد، ومنه استقرا في بار اسمه
قبرص، حيث أخذ فتحي التوني يمطره بالأسئلة عن كل شيءٍ
في حياته، وخصوصًا عن تجاربه الجنسية السابقة، وهو ما بدا
أنه يمتعه أكثر من أي شيءٍ آخر. قال كريم لنفسه إنه ربما عثر
على ما ظلّ طويلًا يبحث عنه، وأنكر ضيقه من طريقة التوني في
التصرّف والكلام والأكل. مازلتُ أتذكر التماع عينيه وابتسامته
الصافية حين كان يتذكر الثياب الجميلة التي اشتراها راعيه الفجّ،
ويصفها مُدققًا في ألوانها وأقمشتها وماركاتها. اتسع العالم فجأةً،
ذاق أصنافًا من الطعام لم يعرف لها أسماء من قبل، وزار أماكن
كلُّ شيءٍ فيها مباحٌ.
أسابيع معدودةٌ قضاها في جنّة فتحي التوني، الذي لم يقترب
خلالها من جسد كريم، بالكاد بعض القبلات والأحضان والمداعبات
الخفيفة في سهرات سُكْرٍ وعربدةٍ لدى بعض معارفه، ما أربك كريم
ودفعه للتساؤل، فرغم خوفه من تلك اللحظة كان متلهفًا عليها، فإمّا
أن يستمر الحلم بعدها وإما أن ينتهي، فيعود للوحدة والتسكّع برفقة
محمد سكّر على الأرصفة.
ثم اتصل به التوني ذات ليلةٍ، واستدعاه بكلماتٍ معدودةٍ إلى
أحد الفنادق. كثيرًا ما تخيّل كريم ذلك اللقاء قبل أن يحدث، تخيّل
استعدادًا خاصًّا، طقوسًا، وردًا وشموعًا ونبيذًا، تخيّل أن كل قُبْلةٍ
ستكون مثل حكايةٍ من حكايات ألف ليلةٍ وليلةٍ. لكن الواقع خذل
أحلامه، كان الفندق مجرد لوكاندةٍ حقيرةٍ في كلوت بك، لا تتناسب
بالمرة مع مقام التوني.
في غرفةٍ بشعةٍ، كان التوني يدبّ في مؤخرة الولد ذكره القصير
الغليظ بلا توقف على مدى ساعتين حتى خشي كريم أن يغلبه الألم،
فيصرخ، وتكون فضيحةً. لم يدرك مشكلته بالضبط، لكنه لاحظ أن
كيس خصيتيه يكاد يلتصق بما بين فخذيه، فلا يتدلى ولو بدرجةٍ
طفيفةٍ مثل بقية الرجال، إلى جانب ضمورهما الواضح، فلعلّه كان
يعاني علةً تجعل القذف مستحيلًا.
المهم أن كريم نزف دمًا من فتحة شرجه، وبكى مسترحمًا
التوني أن يعتقه، فأخذ الرجل يضربه كالمجنون، بيديه وقدميه،
دون أن يحاول كريم الدفاع عن نفسه؛ فقد تركز كل همه في
لملمة ثيابه وتغطية نفسه بها بأية طريقةٍ، حتى يفلت بجلده. في
الميكروباص، كان يبكي صامتًا والناس تتفرج عليه، بينما ما زال
يشعر بالدم الساخن يبلل ثيابه من تحته.
لم يبكِ كريم بعد أن أتمّ حكايته، بل ابتسم بجانب فمه، كأنه يتذكّر
نكتةً سخيفةً، ثم أدارَ وجهه، وأخرج مصحفه الصغير.