بين “أمور شخصية” و”بر بحر” الطريق من الناصرة لرام اللة قد تمر بتل أبيب / راجي بطحيش

|راجي بطحيش|

لم أستطع منع نفسي أثناء مشاهدة فيلم “بر بحر” لميسلون حمود من مقارنته طيلة الوقت بفيلم “أمور شخصية” لمها الحاج، ربما لأنهما أطلقا في نفس التوقيت وفازا بنفس المهرجان وما إلى ذلك، فلقد شدني “بر بحر” حتى نهايته وكأني أشاهد مسلسلا مصريا يحمل تقنيات جديدة ولغة ديناميكية مفعمة بالتشويق كما نشهد في الدراما المصرية في السنوات الأخيرة، بينما أصابني فيلم “أمور شخصية” بالإحباط وأحيانا الملل وفقدان التركيز في أجزاء عديدة منه. قد يكون “أمور شخصية” يحمل لغة فنية ولغة شعرية اعلى من “بر بحر”  الأقرب إلى الحدث التلفزيوني ولكن في هذه الحالة لم يكن ذلك كافيا كي ينطبع في ذهن مشاهديه كما هو الحال في فيلم ميسلون حمود.

بعد فيلمي ميشيل خليفي “الذاكرة الخصبة” و”عرس الجليل” وفجأة وبعد اندلاع الانتفاضة الأولى التي عرض “عرس الجليل” عشية انطلاقها قرر صناع الأفلام الفلسطينيون بتأثيرات إنتاجية بأن الحدث المثير والحقيقي هو ما يحدث في الضفة والقطاع وأن ما يحدث في الجليل والساحل والمثلث لا يستحق الإشارة له وهكذا تدهورت أفلام ميشيل خليفي بعد بدايات مبشرة جدا وهي تحاول النبش في جسم وطني لا ينتمي المخرج إليه معرفيا وشكليا حيث تراكم التزييف في سينما خليفي ابتداء من “أنشودة الحجر” و”حكاية الجواهر الثلاثة” ولغاية الآن وحدث ذلك جليا مع كل من هاني أبو أسعد وتحديدا في أفلام “عمر” وكارثة “الآيدول” ولدى توفيق أبو وائل في فيلمه الأخير “تناثر” حين قرر الخوض في الطبقة البورجوازية المقدسية فجاء التزييف كبيرا.

لم تستفد مها الحاج من تلك الدروس السابقة فقررت وبتوقيت خاطئ جدا تشكيل شخصيات فيلمها كونها شخصيات فلسطينية جامعة لا تتحقق إلا في الخيال، وبما أن الفيلم ليس خياليا ولا هو يستخدم بنية ما بعد حداثية في التشكيل  فقد جاءت الشخصيات هلامية جدا ومغتربة  وخاصة بالنسبة للمتفرج الفلسطيني “ابن البلد” وأشدد هنا على ابن البلد، فقد يشاهد المتفرج الذي لا يقطن في فلسطين الشخصيات من منظور آخر، حيث تبدأ مشاكل الشخصيات من موضعتها جغرافيا، وتستمر باللهجات وتمتد على غموض دوافعها وإلى ما ينتهي من مشاكل وبما أن المخرجة أرادت تناول أمور الشخصيات الشخصية ، يحتار المشاهد البسيط كيف يمكنه التعاطف معها وما هي مفاتيحها، فلا الدراما تمر عبر الشاشة ولا حتى الفكاهة، ولا طيبة القلب التي شُدد عليها في حيثيات قرار لجنة تحكيم مهرجان حيفا حين منحت الفيلم جائزة الفيلم المحلي الأولى ، لم تأت أخطاء المخرجة وكي لا أظلمها من فراغ فهي نتاج لمنظومة طريقة تفكير فني فلسطيني تتفاعل منذ عقود كما ذكرت في البداية، يتم بموجبها أخذ الحسابات السردية من منطلق الشعور بالذنب والرغبة بعدم تصوير جسد فلسطين على ما هو بالحقيقة كي لا يتم إيذاء مشاعر المتفرجين العرب  وخاصة اللاجئين التواقين للعودة إلى بلد طاهر ونقل الأمور وكأنها تطبيع مع الحياة ضمن المنظومة الإسرائيلية، فهكذا يتم “تعقيم” الشخصيات والأماكن مع الزج بالحواجز العسكرية لسبب وبدون سبب وافتراض أن العائلة النصراوية سوف يهرب أبنائها من جحيمها لممارسة التمثيل والإخراج في رام اللة وكأنها أصبحت فجأة “هوليوود الشرق” أو أن يذهب الممثل لإختبار إداء لفيلم أمريكي في حيفا وليس في تل أبيب(منذ متى تجري اختبارات الإداء للأفلام الأمريكية في حيفا؟) إلى آخره من دقائق الأمور التي تفرغ الشخصيات من مضمونها المفترض والفيلم من حميميته المبتغاة.

أما عند مشاهدة فيلم “بر بحر” فإنك تجلس متشككا  كمخلوق مكلوم بنظريات المؤامرة ، متفرجا غرائزيا يبحث عن أول هفوة ليتراجع عن شغفه ولكنه يتلصص ويتلصص، لا يستطيع التوقف عن التلصص لبرهة، التلصص على حيوات الشخصيات وبالتالي حياته، حياته التي مضت مع الصبا وحياة الجيل الذي أتى بعده للمدينة الكبرى الوحيدة متحملا لسعاتها حيث لا يستطيع التخلي عن سحر اغوائها اللذيذ أحيانا والموجع أحيانا أخرى ، صيادلة عرب يعملون في الصيدليات التي يرفض اليهود العمل فيها بسبب الملل ، محامياتفي قضايا شائكة، طبيبات يتخصصن في إيخيلوف، صناع سينما، هواة موسيقى، عمال حانات، طلاب وطالبات، مثليون يبحثون عن ملاذ للاختفاء، شخصيات نابضة ليس باستطاعة خرافات رام اللة احتوائها، تنبش ميسلون حمود في اللحم الحي للمجتمعات الفلسطينية المتنوعة في الداخل دون مواربة ودون طرق التفافية ودون محاولات للتجميل أو ” التعقيم” أو الظهور بشكل لائق وطنيا في الخارج ما يذكر قليلا بفيلم “عجمي” الرائع من عام 2009 والذي نبش بدوره في عالم الإجرام والشباب الضائع في يافا بعيدا عن رومانسيات النكبة أو ربما كانعكاس لها. فتأتي الشخصيات مقنعة، تحمل خلفيات اجتماعية حقيقية وسيرة ذاتية قابلة للتحقق، ما يجعلك تضحك معها وتحزن لحزنها وتهددك في الصميم كما حدث أم الفحم ولكن ذلك موضوع آخر.