بر بحر…. عميقا في الشَّقّْ / منار زعبي

| منار زعبي|

لكل عمل إبداعي بما في ذلك السينمائي قدسية لا يعرفها إلا من ربط الليل بالنهار ليصلنا بمادة مثيرة ومحفزة تدفعنا للتفكير…. وبالتأكيد ليس بمقدورنا إجمالها بنص هنا أو هناك..

شكرا ميسلون وكل طاقم الفيلم بر بحر

عجلة الدهس…

تتجلى أداة القمع المجتمعية أمام أعيننا بداية بشخصية المرأة التي تلقن العروس ما يتوجب عليها أن تفعل لإرضاء عريسها… زوجها المستقبلي أثناء سلخ الشعر النابت من جلدها منذ نعومة أظفارها “بسكر البنات”، شعر سينبت ويقتلع من جديد… مرة وأخرى…. وأخرى…. حتى النهاية…. وبرغم انه فعل عنيف بامتياز إلا أنه يأتينا بالضرورة بنتائج “جميلة وناعمة وأنثوية لايصح غيرها…”  تحت هذا الملمس الناعم تختفي آلام الضحية…. آلام قديمة حديثة ومستقبلية إلى حين زوالها… أن يتحرر الجسد من الحمل الملقى عليه هو بحد ذاته عمل مرفوض ويخلخل النظم المتعارف عليها… إذ أنه بهذا الحال يتحدى التابوهات التي وجب السكوت عنها لأنه “عيب مش هيك بتحرروا…..”. وتستمر عجلة الدهس في دهس روح جيل الشباب متمثلا بالشخصيات التي اختارتها المخرجة بوعي تام وبدقة لتكشف الستريوتيبات المبني عليها إدراكنا وبهذا تخدش حياءنا المفتعل والذي يحمل في طياته جرائم نرتكبها مع أقرب الناس لنا في أول تجربة لهم ونغير مجرى حياتهم هم “الخارجين عن القانون..”..

عجلة الدهس تتمثل بعدة شخصيات يتراوح تعاطفنا معها بحكم ما نحن عليه ومقدرتنا على التسامح معها بحكم ما هي عليه كالوالدين الذين رفضا الحب المحظور لابنتهم التي يحلمون بتزويجها “أحسن جيزة… ابن ناس ومتعلم وما باس تمه غير أمه!!. وولا مرة نام براة البيت….” والله مقياس للأخلاق!!!، ثم الشاب المتمزق بين رغباته والوظيفة الملقاة على عاتقه بالحفاظ على تضاريس هذا المجتمع وعدم التجرؤ عليه لأنه “كله خير.. بخير…” وعليه انتقاء شريكة حياة تلائم الصورة ولا يجوز اختيار زوجة “ناشز…”، ثم الرجل المتستر بخطاب الطهارة الذي يستغل صلاحياته الدينية لارتكاب أبشع الأفعال… والذي تناوله الأدباء المصريون من القرن الماضي أذكر منهم القصة القصيرة ليوسف ادريس “بيت من لحم”… حيث يسري الشذوذ والقمع في الظلام ويستباح كل شيء حيث لا كاميرا ترصد…

تستمر عجلة الدهس خارج الفيلم في الأروقة الافتراضية وخارج دور السينما آتية من بعض الجمهور وفيه تتوج قمعها الحقيقي بالتهديد والوعيد بادعاء التطاول على الناصرة وأم الفحم وترشيحا وبنات مجتمعنا وأبناء مجتمعنا… وأين هذا من ذاك…. فالمخرجة لا تعتمد التعميم بالمطلق…. وهذا واضح للعيان… إذ أنها رصدت حالة ما…

ميسلون حمود استحضرت الستيريوتيب (النظرة النمطية) لتسخر منه وليس لترسخه وقد ظهر ذلك بمشاهد عدة …. إن اليد التي عبثت بجسد الدجاجة على مائدة الطعام وفسختها ووزعت أشلاءها بسخاء هي نفسها التي شقّت الروح والجسد الأنثوي إلى شُقَّين عنوة وبقسوة لا يقبلها قلب… هذا المشهد الذي يلتقينا مباشرة  بمؤخرة المغتصب شبه العارية تحدق بنا أثناء ارتكابه لفعلته الشنيعة غير آبه بنا وبتلصصنا بل يتلذذ بصمتنا ويتوسع في “فتوحاته….” متوجا بصورة قدسية لمفتاح العودة والحقّ…

تتجاهل عجلة الدهس هذا المشهد وتنشغل بالإنثى “الشَّموص”… وتتفنن بأوصافها…. ساقطة، عاهرة، لا تمثل إلا نفسها، هي ليست منا وهكذا وكأنها ليس ابنتنا التي لم تحظ بالحب والحظ الكافيين وبكل بساطة تريد أن تعيش بظل حب دافئ وداعم…. فنجهز عليها ونقطعها قطعا صغيرة ليسهل علينا مضغها على كل مائدة….وفي كل مناسبة…. مع علمنا أنها تحمل قصة طويلة والتي لم تبح بها أمامنا وهذا ليس بصدفة…. عجلة الدهس لا تقبل أن يولي الجيل الشاب لنا ظهره ويربكنا ويستوقفنا لنسأل أنفسنا إلى أين نحن ماضون؟…

في السينما…

عمل سينمائي فني فتي كهذا… من الجدير التوقف عنده…. بمستوى اللغة السينمائية الفنية والتي حظي بفعلها الفيلم بكل ردود الأفعال هذه التي سمعناها والتي تتراوح ما بين الرفض المتشنج والقبول المرن…. أراها لغة واقعية تميل إلى الكاريكاتورية أحيانا وتشد الوتر عند المَشاهد المحظورة في الحيز العام إلى حد يتسبب في ململتنا داخل مقاعدنا الوثيرة مرتبكين…. لغتة حيّة ايقاعية تجمع بين الصورة والصوت بشكل مثير جدا ومفعم بالحيوية… تستحضر رموز المكان الجمالية الشاعرية كالبحر المتجدد بأمواجه اللانهائية والقادر على غسل الروح من عنائها… (هذا البحر لي…درويش) لغة ذات مقولة وموقف واضحين من أن توسيع حيز الحديث في المسموح والممنوع (الدين والسلطة والجنس)  بات واقعا لا رجوع عنه… فيصبح هذا العمل السينمائي تراكما مترابطا  مع ما سبقه من أعمال سينمائية وبهذا يصيغ نفسه ليشكلها جزءا لا يتجزأ من المشهد السينمائي الفلسطيني لا بل أعتقد أنه يقف عند مفصل هام بتاريخ هذا المشهد…. حين يقف على حال الفرد وهواجس هويته وبحثه لتحقيق ذاته وصراعه الداخلي وغربته وصدامه مع القوى الخارجية السياسية والاجتماعية دون الرضوخ للشعار الوهمي عمل “في خدمة القضية….”.

يبقى السؤال مفتوحا حول تضامن الشخصيات في “المنفى..” في الغربة… هل سيعودون مع هذا التضامن ليخترقوا به هذا المبنى “المتين..” الآيل إلى السقوط ؟، أم أنها شطحة شبابية ونزوة عابرة ليعودوا بنهاية الأمر كحرس نظامي لهذا المعبد…