جريمة في رام اللة (نور- 7)/ عبّاد يحيى
مقطع من رواية “جريمة في رام اللة ” – عبّاد يحيى – منشورات المتوسط – إيطاليا- 2017
(٧)
لا أدري كيف سأتذكر هذه الأيام في المستقبل! هل سأندم عليها؟ هل سأحاول نسيانها بأي طريقة ولكن دون جدوى؟ هل سأعتبرها عمرًا ناقصًا، ضائعًا مفقودًا لم يكن؟ أم أنني لن أعبأ بأي شيء! تمامًا كما أنا الأن.
هذا الصيف الذي يبدو مناسبًا للنزوات والنسيان، يلقي بي للنزوات ويعذبني بالتذكر.
في الأيام الماضية كدت أفقد عملي، وربما أشياء أهم. لولا رفاق المطعم لكنت ترديت تمامًا، آه.. نعم، آرنو، لولا آرنو لكنت في أسوأ حال!
لا أشعر أنني بكامل وعيي وقدرتي..
في البيت منذ يومين بعد ساعات بالمشفى رفقة آرنو. تسمم غذائي أو كحولي أو ماذا لا أعرف..
وضعوا لي عدة أكياس معلقة بيدي وقالوا حين تنتهي داخل جسدي يمكنني المغادرة مع كيس أدوية أراها لأول مرة. كل ما كنت أفكر فيه ألا يتصل أحد بعائلتي. آرنو طمأنني وأنبني، قال إنني بتهوري أدمر كل شيء.
لم أعرف ما هو هذا “الكل شيء” الذي أدمره.
أحاول الهرب… ولكنني كمن يهرب من سجن في وضح النهار وأمام كاميرات المراقبة وأعين الحراس ويصرخ بأعلى صوته منبهًا الجميع إلى هربه.
حملني آرنو إلى الشقة، اشترى بعض الطعام والسوائل اللازمة ووضع الهاتف إلى جانبي لأتصل به إن احتجت شيئًا.
أنا على هذه الحال من التشوش منذ أيام.
سأتصل به وأخبره برغبتي العودة إلى العمل. تعبت من التمدد والأدوية المدوّخة.
أحاول تذكر ما جرى لي. أضحك على نفسي. أتذكر كيف كنت في أيامي الأولى في لوتس. كم حاولت تنزيه نفسي عن كل شيء أراه ناقصًا دنيئًا.
“علقت بذهني لعبة كان يلعبها بعض الشبان.
يجلسون في زاوية ويبدؤون في النظر إلى الإناث الموجودات في البار، يشير أحدهم بطرف عينه لإحداهن ويبدؤون بتخيل كم كأسًا يلزمهم حتى يقبلوا النوم معها ويقدروا عليه.
الفكرة بسيطة، كلما زادت المرأة قبحًا كان النوم معها بحاجة لشراب أكثر.
ويحدث أن توجد جميلة فيرد المسؤول على السائل إنها لو توفرت، فسيعاشرها بكامل قواه العقلية وبعدة أكواب منبهات، فيمازحه صديقه بأنها هي من تحتاج كؤوسًا كثيرة لتنام معه.
الطريف في اللعبة تعليقاتهم، وتصنيفهم لجمال النساء بمقياس الكؤوس.
مرة سأل أحدهم عن واحدة فتململ المسؤول وقال إنه بحاجة لبرميل حتى يستطيع الاقتراب منها.
عندها رد عليه آخر بالقول إنه بقنينة واحدة ينام مع صديقه.
ضحكوا كثيرًا.
عاهدت نفسي يومها بمنتهى السذاجة ألا اقترب من سكران ولا أجعله يقترب مني، أن أبعد عني تلك المعاشرات الثملة التي تنخفض فيها الاشتراطات والمعايير، وأبتعد عنها.
كنت أرتقي بجسدي وحاجاته وأطهّرها حتى عن الأمور العادية والمألوفة، كنت أحاول أن أمنح كل شيء قيمة وأحصنه، ربما كان رد فعل على امتهان حاجاتي.
ربما..
أحيانا أشعر أن كل شيء آتيه هو رد فعل، أن أكتشف إن كنت أفعل ما أفعل لأنني أريد فعله، أو أنني أفعل ما أفعل كرد فعل، هو سؤال حياتي.
أخاف من فكرة كون أفعالي التي أعتبرها خيارات كاملة وحرة وقاتلتُ طويلًا من أجلها، هي مجرد رد فعل لشيء فُعل بي ولي من دون أن أدري.
كنت أريد معيارًا لأفعالي ومحدِّدًا أنا أؤمن به، ولكنه كان يتلاشى كلما اعتقدت أنني عرفته.
هذا ما كنته، والأيام الماضية تشهد على أنه ماض بعيد.
لا أذكر أسماء من دخلوا الشقة معي في الأيام الماضية. ولا أذكر ما فعلوا بي وما فعلتُ لهم! تذكّرني الأوجاع في بدني والحرقة في عضوي، والبثور حول فمي.
شدّ في باطن قدمي وفخذي، كأن عضلاتي مُطَّتْ حتى تمزقت، وبقع وخدوش في بدني، وتشنج في أصابعي ويدي، كأنني كنت أتشبث بأشياء تفلت مني..
بماذا كنت أتشبث طوال الليالي الماضية؟
أتخيل إجابة … ثم أحاول ألا أتخيلها.
كل شيء تشبثتُ به خذلني.
أتذكر البكاء حين يستيقظ فيّ شيء وأنا تحت أحدهم أو أمامه. حين طلبت منه أن ينظر في المرآة إلى وجهي وهو يدخلني، فضحك مستهزئًا.
“إن لم تنظر في وجهي فأنت تفكر في وجه آخر”. ضحك وطلب أن نكمل ما نفعله. كأنه في وظيفة، كأنني عاهرته الصغيرة!
لا أذكر ما حصل بعدها، كنت أشرب كمجنون وأعبُّ كل السوائل كبقرة، وأدخن كل لفافة تقع في يدي كسجين، ولا أشعر بشيء.
ماذا أتوقع من شخص عرفته قبل ساعة؟
أن يحبني؟!
لماذا أنظر في وجوههم ولا ينظرون في وجهي! عن ماذا أبحث في وجوههم؟
يحضر الوجه الذي أبحث عنه.
أقلب بدني إلى الجهة الأخرى، وأفكر برؤوف، أحاول أن أطبب بتذكره جروح الأيام الماضية.
بمجرد أن تلمس أصابعي كتفه كانت يده تتحرك لتلمس كتفي، وحين أبدأ برسم دوائر صغيرة على الفجوة الخفيفة بين كتفه وصدره كان يبدأ بالهبوط بأصابعه نحو صدري ليرسم دوائر مماثلة.
حين كنت أريد شيئًا لنفسي، أي شيء، مهما كان غريبًا وغير اعتيادي، يكفي أنا أباشر بفعله له، ليستجيب فورًا كأنني أنا أحركه، ويفعله لي. لا أذكر أنه تأخر للحظة عن مجاراتي مهما كانت حاله.
كانت علاقة تبادلية مكتملة، لا أظن أن أحدًا غيرنا اختبرها، وكانت مسرفة في التجريب أيضًا. لم أكن أمنع نفسي من فعل أي شيء أرغب بتجربته، وكان لا يتأخر للحظة. كنت أظنه أحيانًا يغيب عن الوعي بمجرد اقترابي منه ويصبح رهن إشارتي وحركاتي، ولكن المتعة العجيبة التي كانت تنضح من جسده كله تدل بكل وضوح على مقدار إصراره ورغبته.
بعد مغامرات متهورة بين جسدينا فكرتُ أنه أيضًا سعيد بهذا التبادل المطلق، سعيد بالهمسة مقابل الهمسة واللمسة مقابل اللمسة واللعق مقابل اللعق. سعيد بهذه العلاقة التي لا طلب فيها ولا تفكير ولا موافقة ولا رفض، بل استجابة غير مشروطة. استجابة عمياء للرغبة المقابلة، واستجابة عمياء للرغبة الخاصة.
حتى عضوي بدأ يتبدّل معه، بعد أن كان مركز كل شيء في حاجاتي الجسدية لم يعد كذلك، كأنني تعبتُ من استخدامه، كأنني رغبتُ بأشياء أخرى، كأنني لم أعد متأكدًا من أن ما يشعرني به هو ما أريده فعلًا أو ما أتوق للشعور به. كأنني سئمت منه. أكثر من عشر سنوات من الانشغال اليومي به، لعلها أتلفت علاقتي به، أو لعلني سئمته. لا أدري. لم أفكر بالأمر كثيرًا، كنت أفكر برؤوف وسعادتنا فقط.
كنت أسأل نفسي كثيرًا قبل رؤوف، ومعه عرفت أن الأسئلة تفسد سعادتي، فتوقفت عن طرحها.
بعد جرعات كبيرة من رؤوف تناولتها على مهل وبلطف بالغ، اختفت الأسئلة، لم أعد مضطرًا للتفكير في ما إن كنت هذا أو ذاك.
تجاوزت الخواطر التي لازمتني منذ سنوات طوال، ومعها اقتنعت أن الإجابات حتى لو كانت موجودة فهي لن تغير شيئًا مما أريده، أنا كل الأشياء التي شعرتها، حتى لو كانت متعارضة متضادة.
الريبة الوحيدة التي تسللت إلى نفسي كان التفاني مصدرها، إن كنت أريد لنفسي ما أفعل له وبهذه الرغبة العارمة، فكيف يمنحني المقدار الذي أريده ولا ينتقص منه؟ كيف يدرك إلى أي حد أريد وكيف أريد؟ هل كان تفانيّ البارع في ما أفعل به وله، هو محرك تفانيه البارع؟ هل كنت أعطيه تمامًا كما كان يعطيني؟ هل كنت أفعل بنفسي من خلاله؟ أفعل بنفسي وفقط؟ هل كان يحبني؟ هل كنت أحبه أم أحبني معه؟ أحبني على الشاكلة التي أكونها إلا بوجوده؟
أتذكر كمن ينظر إلى صورة، مرتنا الأولى. بعد جولة تنظيف طويلة في الشقة، كنا خلالها طفلين يلهوان بالماء على وقع أغان شعبية تملأ البلد، كان المغني يتغزل بزريف الطول خاصته وأنا أنظر إلى زريف الطول خاصتي يطوي جسده وهو يفرك زوايا الحمام بليفة صفراء وعضلات جسده تستطيل وتتقلص.
أنهينا التنظيف ودخل ليستحم والباب مفتوح، لا أدري إن تعمد إظهار تعنّيه في الوصول إلى حاجيات استحمامه أم أنني من رأيت هذا وشعرت برغبة بالاقتراب.
عرضت المساعدة عليه، فاستدار نحوي بعضو شبه منتصب، فعبرت معدتي رجفة صغيرة على مراحل انتهت وهو يقول: “تعال”.
بعد ذلك اليوم لم تعد أجسادنا شيئًا يفترض أن نداريه عن بعضنا، ذلك اليوم كان المقدمة لأيام صارت فيها أجسادنا شيئًا يفترض أن نتشاركه.
ولعل هذه المقدمة نفسها، كانت مقدمة لأيامي هذه!
بعد كل هذا ها أنا ألقي بنفسي لمن كنتُ أراهم حيوانات هائجة.
مشكلتي أنني منذ رحيل رؤوف صرت أفكر في كل شيء.
كثيرون حولي كانوا مدفوعين بالفضول، بمجرد الرغبة بالتجريب، وهذا كان يؤذيني بطريقة أعجز عن شرحها، يؤذيني حين أتذكر كل الأثمان والأوجاع التي اضطررت لتقديمها وخوضها، كانت ولا تزال وستظل مسألة حياة، فكيف يمكن أن أشعر حيال من يتعامل معها كموضوع لفضوله ورغبته بالتجريب المدفوعة بالملل أو السأم!
لذلك كنت أتجنب هذه النوعية، وتجنبت أستاذ الجامعة الذي راودني ثم تزوج إحدى طالباته. في داخلي كنت أحتقرهم إلى حدّ لا يوصف.
انهمكت في تنزيه جسدي وحاجاته إلى حد الهوس.
لذلك صرت منجذبًا لمن أرى في وجوههم وأسمع في صوتهم وأحس في أنفاسهم ذاك التعب من درب طويل عبروه في الطريق إليّ، لمن يعرفون أنها مسألة حياة.
ولذلك أيضًا كان يمكن أن أغفر أي شيء إلا استغلال حالي هذه للتقرب مني، عبر ادعاءات وأكاذيب وقصص ملفقة عن عذابات وصراعات، قالوا لي إنني مهووس بالمعذبين والضحايا، كذبتهم ثم اعترفت لنفسي بأنني مهووس ربما. صرت أدقق في ادعاءات كل من يقابلونني، وما أسهل كشفهم.
نحن أبناء هذا العذاب الجسدي والروحي نعرف بعضنا بعد تدقيق بالعينين لثوان أو بعد لمسة نعرف من ارتعاشها كم كانت بعيدة مشتهاة ولذلك هي غالية لا تقدر بثمن.
أين ضاع كل هذا؟
أريد أن أضحك على نفسي طويلًا فلا أستطيع.
ضاع مع سوائل المجهولين التي رشقوها على ظهري وبطني وفخذي وفي داخلي.
أنا بحاجة لأنقع نفسي بالكلور حتى أتطهر منهم، أما داخلي فلا أدري كيف وبماذا سأنقعه ليعود كما كان.
أريد أن أهدأ أن أطمئن ألا أفكر بهذا الجسد كل لحظة، ألا أخاف مما أشعر. هذا كل ما أريده”.
أنهض لأغتسل.
اسمع رنين هاتفي المحمول من داخل حوض الحمام. أستعجل للحاق بالاتصال. آرنو يطمئن عليّ ويدعوني للخروج. أطلب منه أن يأتي لاصطحابي، فيدعوني لتناول فطور مميز.
أغلق الخط وأبتسم أمام هذا اللطف غير المفهوم.
لا يسألني آرنو عن شيء يزعجني، لا يوجه لي النصائح، لا يتذاكى عليّ، لا يطلب مني شيئًا سوى الاهتمام بنفسي. وبعد أيام تحولتُ فيها إلى رماد مسحوق، ها هو يلملمني بلطف، يتحدث معي عن كل شيء ممكن إلا ما قد يزعجني، ويطلب مني تناول الطعام في هذا المقهى الجديد. ثم فجأة يسألني عن اسم حسابي على فيسبوك؟
- “ليس لدي فيسبوك”.
يدهش بشكل غريب، ويكاد يصرخ: “معقول؟! لم أر أي شخص هنا بدون حساب فيسبوك؟!!”
أجيب مبتسما:
– “لا أدري، لم يعجبني الأمر، وليس لدي ما أقوله”.
يضحك ويرد بسرعة: “ليس مطلوبا أن تقول شيئًا، يمكن أن تتابع وتقرأ!”
يضع يده على ركبتي ويقول: “سنستغل هذا الصباح في إنشاء حسابك على فيسبوك..”
أستسلم مبتسمًا.
يلتقط هاتفه ليصورني. أحاول الابتسام للصورة، أتذكر أنني لا أملك صورًا لنفسي، صور الطفولة لدى عائلتي أما معي فلا صورة سوى وجهي.
يسألني أن أضع كلمة السر التي أريدها، أضحك وأقول: “آرنو ١”
نضحك كثيرًا كأن شيئًا مفرحًا سيحدث بعد قليل.
نستغرق ساعتين في عالم أزرق ملّ منه الناس وأنا أكتشفه اليوم. يضيف لي صفحات عديدة، ويكون صديقي الوحيد.
يتركني مع جهازه ويذهب إلى الحمام. أضع المؤشر على خانة البحث كما علمني منذ لحظات، أفكر في كتابة من أبحث عنه لأرسل له طلب صداقة أو أنظر في حسابه من باب الفضول. لا يخطر ببالي إلا رؤوف.
أشعر بضيق، يصطاده آرنو بعودته قبل أن يتفاقم، يسألني إن كنت بحثت عن أصدقاء، فأقول لا. يقول: “ما رأيك بزملائك في المطعم؟”.
أراها فكرة مناسبة، أبحث عنهم، غير متأكد من طريقة كتابة أسمائهم، إلا أن آرنو يعثر على بعضهم، ويرسل طلبات الإضافة.
لحظات وتصل رسائل تعجّب ومزاح منهم. أشعر بالألفة، وأتأكد أنني أحبهم.
يفاجئني الناس بقدرتهم على القسوة وكذلك بقدرتهم على اللطف، بل بقدرتهم على جمع هذه التناقضات. فجأة صرت طفل البار المدلل، حين أتعب يحتضنني أحدهم ويطلب مني أن أرتاح. مدلل الجميع، كلهم إخوتي، كأنهم أدركوا ما بي وتصالحوا معه لمرة واحدة فقط، بل تصالحوا مع حالة واحدة فقط هي حالتي.
مرة، لم أتمالك نفسي وبكيت عليها، ففوجئت بهم ينظرون إليّ. بعدها صرت مدللهم. كل مصائرنا المشتركة وشقائنا في العمل معًا، وكل ما نواجه، لم يفلح في إشعارنا بأن هنالك ما يجمعنا، إلا لحظة انفجار عاطفي بكيتُ فيها ورأوني.
آرنو ينتشلني إلى صباح هادئ.
أفكر في البحث عن أسماء بعض الصديقات، كن زبونات للمطعم وصرن صديقات، أشعر بأفضلية نادرة على كل الشباب حولي، لدي كل تلك الصديقات اللواتي لا أفكر مرتين قبل قول أي شيء لهن.
“يتكرر مشهد ثابت في علاقتي مع أي فتاة عرفتها، حين يبدو واضحا أنها متوجهة صوبي تمامًا، يحدث في بضع ثوان ما تعوّدت على رصده، وتصنيف الفتيات بناء عليه. تتغير ملامحهن، جميعهن، كأن شيئًا بدا أوضح لهن، كأنهن أدركن بفطرتهن شيئًا ما.
بعضهن، يبدو واضحًا أنهن يفكرن بالتراجع، ويتراجعن. أما من يتقدمن بعد تغير ملامحهن فهن أدركن شيئًا ما، وأستطيع معرفة ما أدركن بعد الحديث معهن.
هل اعترف بشيء خطير حين أقول إنني أخاف منهن قليلًا، أخشاهن وأحاول التملص!”
أتذكر آية.. هل أبحث عن اسمها في فيسبوك؟
لا
يذهب آرنو إلى عمله وأظل في المقهى الهادئ، كأنه وقت مستقطع. ولكن بمجرد اختلائي بنفسي حتى ينقض عليّ عقلي المتعب، المهووس بتعذيبي معه.
“لا أجد أبأس مما حل بي في الأيام الماضية، ما صار عاديًا، أن تصحو وتعمل وتأكل وتسهر وتنام دون أن يرد على بالك من كان يملأ حياتك قبل أشهر! رؤوف لم يعد موجودًا في حياتي، بات خاطرًا يرد في بالي حين أسأم من التفكير بأشياء ترهقني، أو مجرد سيال عصبي استفزه التفكير بشيء قريب من رؤوف فاستدعاه، قطعة ديكور لاستكمال المشهد ومواصلة التفكير.
وفي كل تذكر له أتأكد أنني أنساه، حين أتنبه للمدة التي قضيتها دون أن يخطر لي على بال. أفكر بالمساحة التي كان يملأها من حياتي حتى كأنه كان يشغلها كلها، ثم أفكر كيف عالجت الفراغ الذي تركه، وبماذا ملأته.
وأسوأ ما في الأمر أن التذكر لا يحمل إلا فكرة واحدة، كيف انتهى كل شيء. في المرحلة بين البدء بنسيانه حتى نسيانه كليًّا، يبدو أن الشيء الوحيد الذي يظل حاضرًا هو النهاية، كيف انتهينا، أو كيف بدأ النسيان وصار ممكنًا.
ومع الوقت وتكرار التفكير في النهاية المبكرة تلك، تغدو الأمور أبسط وأكثر كثافة.
كان بيننا ماء، وبدأ يجف رويدًا رويدًا، هذا كل ما في الأمر.
كنا نحكي أكثر، نضحك أكثر، وبدأ الحكي يقل والضحك أيضًا.
وحين أسأل رؤوف عن أي شيء يتغير بيننا، كنت أُسرِّع في تجفيف الماء الذي بيننا.
سلوك رؤوف منعني من سؤاله عن الأشياء التي بدأت تتغير. وحين يفيض بي وأسأله، أدخل معركة خاسرة تبعده عني أكثر.
حين لا أكون معه، في الجامعة أو في العمل، أظل أردد في عقلي الكلمات التي أريد قولها له، أتخيل الحوار كاملًا، العتب والسؤال والشكوى والصراخ والبكاء كاملًا، وأرتب الأسئلة والإجابات والعبارات، سأقول هذه إن رد بتلك، سأجيبه بكذا إن سأل عن كذا، سأذكره بذاك الوعد وسأخبره بما لم أقله في مرة سابقة.
أظل لساعات أردد كل هذا في خاطري في انتظار رؤيته. وحين أعود للسكن وأجده أحاول بدء الحديث، تفريغ كل هذا الكلام الطويل، محاولًا بث الحرص عليه مع كل كلمة. إلا أنه ينظر إليّ ببرود ويقول إنه لا يريد أن يسمع، أنه تعب مرهق، أنه سئم من تكرار الكلام، رغم أنني لم أقل شيئًا!
أخشى من معركة خاسرة تبعده عني أكثر، يقتلني سؤال أيهما أفضل، أن أسكت أو أنفجر؟
إذا انفجرت سيبتعد عني أكثر. وإن سكت…
لا أدري
كنت أنهار لأتفه سبب، أتداعى لمجرد التفكير برغبتي في إسماع رؤوف بعض الأغنيات وعدم تجرئي على ذلك. أتحطم لرغبتي في سماع أغنية معه ولقناعتي أنه لن يهتم بهذا ولا يهتم بحاجتي لسماع أغنية معه.
صرت هشًا كجنين أخذوه من رحم أمه ووضعوه على الرصيف.
كنت أشعر أن كل الكلام الذي أردت قوله له ولم أقله يترسب في بدني في شراييني في مسالك الدم. أنام ثقيلًا جدًا من الكلام المسموم الذي لم يخرج ورؤوف يبتعد.
كأننا كنا في عالم واحد، غادره رؤوف وخلفني فيه وحدي، كأننا كنا في أرض اللهفة والرغبة والكلام الخفيف عما نحس ونشعر، ثم غادر هو وتركني.
صارت الكلمات نفسها التي كانت تبعث في وجهه نورًا، تبعثُ فيه كل ملامح الضجر والسأم بل والاستخفاف،
كأنّه كبر عليّ وعلى ما أحس وأرغب.
حين أحدثه بأحاديث أيام لهفتنا كان وجهه يتغير، يصبح كملامح شاب يدعوه الأطفال للعب معهم.
أخاف من القادم
حين كنت أخشى من دنو نهايتنا كنت أجلس في زاوية بعيدة وأشغّل الأغنيات بصوت خافت لتقول عني الكلام الذي أخاف من قوله لرؤوف خشية رد فعل يُفقدني إياه.
حين كانت فيروز تهمس وتنادي: “يا حلو شو بخاف إني ضيّعك”
كان حلوي يضيع مني وخوفي يتحول لحقيقة.
“نمشي على الجسر العتيق وتضيع مني بهالطريق”
مشينا على جسر الأشياء التي ظننت أننا تجاوزناها وصارت خلفنا، وضيعته حين ظننت أننا تجاوزناها فعلًا.
“يا حلو شو بخاف ليلة عاصفة.. يخطر ع بالك شي نجم، وتقوم تمشي بهالعتم، وإنطر أنا ع الباب إنطر خايفة”.
جاءت الليالي العاصفة ولا أدري ماذا خطر على بال رؤوف، وفي المنتهى كنت أنا من مشى في العتمة وكنت أنا من انتظر أيضًا.
فعلت كل شيء.
تذكر هذا وحده كاف أن يملأ قلبي بالحقد والغضب.
هكذا انتهينا.”