حب في لاس فيغاس

هل ترى هذا المرحاض في هذه الغرفة  في هذا الفندق الفخم الذي يتمايل أناقة وجمالا ويكاد ينهار من شدة فتنته؟ ككل مرحاض آخر انه يمتلئ خراءً والذي سرعان ما تنتشر رائحته في الحيز دون ان يستطيع بريق البلاط الأخاذ وقناديل الإنارة المتدلية برقة جارحة ان تنقذ كل شيء من هذا الجحيم المعطر …كما يتعطل جريان الماء أحيانا ويتحول الجحيم المعطر الى جحيم كابوسي حقيقي…

هل ترى!!…أنظر

 1

 – الاستقبال؟

-نعم،تفضلي

لقد اختفى زوجي وأنا لا اعرف أحدا هنا

ماذا تعنين” باختفى”؟  –

– لقد جئنا هنا لشهر عسل هو يسكن في اريزونا وانا …من نابلس..في فلسطين…وجئت معه لشهر عسل قبل ان نذهب الى بيتنا …

– وهو لم يعد…انا لا اعرف أي شيء هنا …اي شيء

– سيدتي اهدئي قليلا… هل جاء معك؟أنا ارى انكم استلمتم غرفتكم قبل اسبوع ؟ احكي لي من فضلك ماذا حدث؟

– لقد اختلفنا بالأمس ..في الليل وهو خرج من الغرفة غاضبا ولم يعد طوال الليل وحتى الأن …لم تغمض لي عين وأنا وحيدة هنا في أمريكا …

– سيدتي إهدئي …لنت تعرفين نحن في لاس فيغاس :مدينة الأحلام التي لا تنام وقد يكون كل هذا جديدا عليك  حيث تسكنين …أعني!!  والمرء هنا قد ينغمسون باللعب دون أن يشعروا بمرور الوقت..سوف نرسل لك عصائر طبيعية وقهوة كومبليت كي تهدئي وبعدها ان لم يعد زوجك فسنتدبر…

قبل هذا بأسبوع …

عزيزتي لقد ابتدأت مرحلة جديدة في حياتك …اتركي الشعر وهذه الخزعبلات وهؤلاء المجانين اللذين يحشرون في أدمغة البشر عندكم تلك الجمل غير المفهومة …أنظري هذه الروعة هل شاهدت مدينة اجمل من لاس فيغاس ؟…اه اسف نسيت انك لم تغادري نابلس منذ سنوات الا الى عمان التي لا تختلف كثيراً…

قطرة النبيذ تتدحرج من خاصرتك المتعرية وتستقر في ثنايا دهشتي فاستحيل فراشة تمتص اخر ما لوردة الحب ان تقدم قبل موتها …أو موتي…

أنظري لديك كل شيء …كل العالم هنا وعلى بعد ساعات قليلة من البيت…هذه باريس…وهذه البندقية…انظري الأهرامات…وتلك نيويورك…وهنل قصر يوليوس قيصر…وفي هذا الكازينو هنالك لبؤة لونها ابيض…هل تصدقين…

لقد اصريت ان ندخل لاس فيغاس ليلا لكي تصيبك هزة حياتك الكبرى من الجمال …من الأنوار…من الحياة الحقيقية..

ها هي الحياة الحقيقية…

الحياة الحقيقية …كل هذا الجمال… بلون الدم…

انظري هذا البرج المتلأليء …الا تتلهفين للتعرف على ما يتلألأ بين ساقاي …لتذوقه…إنزلي..إنزلي ارجوكي فأضواء فيغاس وتعابيرك العذراء تثيرني…تثيرني جداً…

3

صحراء في داخلي…صحراء لا تنتهي أطرافها تماما كهذه التي تبدو من النافذة …أين كل تلك الأضواء والأبراج المتلألأة

في الصباح يبدو كل شيء أصفر ومغاير…

فباريس تشكو من الجفاف وكذلك نيويورك…والأهرامات اصطبحت ملساء بصورة لا تطاق …

حياتي شارع مغبّر … أو بشارع مغبّر …

يصطف الإنس بجنب الإنس يدخلون أرباع وأنصاف ودولارات كاملة …لا تعابير على وجوههم …وجوههم جامدة وكأنهم جنودا فرغوا لتوهم من مجزرة ..

أين تلك الشظايا التي جئت أبحث عنها…

زوجي الطازج يريد تصويري بجانب سيارة رويس رويز سوداء فارهة يسحبني بعنف …هيا أدخلي وسأصورك وأنت خارجة …سيارة كهذه تغلق شارع كامل لمدة شهر  في نابلس …صورة كهذه تكلف عشرين دولارا على الأقل …

يا الهي لقد ابتدأت أفكر بالإنجليزية ” who the fucken “care!!

لم أعاشره ليلة الزفاف بحجة الحرج …ولا ليلة الأمس فقد كنا متعبين من السفر الذي لا ينتهي…

– هيا تقدمي!! لم تشاهدي شيئا بعد…سأريك العجب…

أمامنا العديد من الأيام …كل العمر…أعتقد أن لا حجة لديك اليوم …أنت في بلاد الحرية وعليك أن تتحرري جسديا…

ثمة شظية تؤلمني يجب أن أخرجها

– أنظري ما ألطف الناس هنا …يعلمون العالم نظريات اللطف!! غدا نزور باريس ونيويورك ونتناول طعام الغذاء على ضفاف نهر الدانوب…

4

شظايا الحب التي أصابتني …تلك هي المسألة ..لو لم تخترق تلك الشظايا الساخنة والحادة جسدي لما كنت هنا …لما كنت …لما كنت هناك…لما كنت أصلا…تلك هي المسألة وذاك هو المصير ..أمسية شعرية في نابلس وليست مجرد أمسية يجتمع فيها الشعراء المحليون ومدونو الخواطر ليقرفوا بعضهم البعض بما هو مفهوم وبما هو غير ذي إلحاح للإنسانية وأوجاعها ..إنها أمسية مميزة يحضر فيها كبار الشعراء من رام الله وعمان والقاهرة إلى المدينة المنسية إلا من عناوين الإقتحامات العسكرية في  نشرات الأخبار…

يقف هناك شامخاً ..أريده ان يعانقني الأن بشعره الأبيض وشاربه الكث والمعطف الأنيق المعتق الذي ربما اقتناه من إحدى سفراته الماجنة الى باريس أو برلين …والطريقة التي يمج فيها سيجارته …إنه يمسكها من الوسط بثقة لترحل باختيال إلى شفتيه التي أرغب بتمزيقها علنا ..الأن وسط هذا الجمع ، أثبته هنا عند هذا الجدار …الجدار..

وشعره يا آلة الخصوبة ما أجمل شعره ما أجمل شعره (بكسر الشين وتحطيمها)…هذه الرجولة وتلك الأعين الخضراء المتمردة والذابلة حوافها…كيف تطلق العنان لمثل هذه الكلمات النبيذية…

أصعد إلى المنصة لأقرأ شعري …تتبعثر الأوراق بين أصابعي البيوت والمقطوعات الأولى أصبحت في الأخر وما خططت أن أختتم به يحدجني  ساخراً…تتساقط أوراقي ألملمها أمام الحضور الهامس والنافث لأدخنته من دون رحمة…داخل خصلات شعري…تسقط نظاراتي السميكة…لم أعد أرى كبار الشعراء يشاهدونني ولم أعد أرى…وهو؟؟!…

-جاء الشعراء الكبار الى نابلس للإحتفال بأسبوع الشعر في فلسطين ولسماع المواهب الشابة في الشعر والنثر والقصة-

ها هو طيفه يقترب من …صرت أعرفه والأن أعرف رائحته ..كالقطة الشقراء الحنون..

– تفضلي هاك نظاراتك

– شكرا لك

– لقد قرأت لك نص أعجبني ..في أحد المواقع الخليجية وأنتظر المزيد! هيا…

شظية أولى لا مبرر لها …ولكنها شظية-

 وأقرأ:

السنوات التي تستريح الآن عند حافة جدول…

الأجساد التي تتمدد الآن في ضواحي عيون تعبت….

الأنامل التي تداعب أيّاما أخيرة عطرية من ولع…

والأيادي التي تلقي بها في مستنقع آسن للهباء….

الأيام التي تنتحر الآن من التلة المطلة على ملهاة المقاهي…

الزمن الذي يتجمد طويلا أمام بريق عينيك…

والهمسة التي تلعق الآن حافة أذني…

يبتسم لي وأباشر:

استلقي بقربي الليلة

سأشربك حتى الثمالة

ها هي ذاكرة أخرى…

تنقش صباحان جديدة..جديدة…

يتورد خداه ..وأختم:

أنظر في المرآة

أتطلع على نفسي

على عيون صارت حزينة…

وشفتين شققهما حب غير مفهوم

وحنجرة تتفتت من حرّ الاشتياق

تكتنفني ذراعان أعرفهما

وتداعب شفة تعرق شعري…ثم…

يهمس صوت ويقول…أنت لي …أنت وانت.

يصفقون لي برتابة …إلا هو..انطلق هاربة…

– الى اين انت هاربة..

– هاربة؟ أنا؟ هذا ملعبي..

– إجابة جميلة من إمرأة كذلك

– إمرأة !!هذا لقب كبير علي

– كيف تريدينني ان القبك؟ قطة مثلاً

– كيف عرفت؟

– لكن حتى القطط لا تتساهل مع لحظاتها المحتدمة..

– ماذا تقصد

– لا شيء..هل تودين إحتساء كأس معي؟

– هنا في نابلس؟…لا شك انك تمزح هل تعتقد ان الحانات تنتشر هنا في كل زاوية شارع كما عندكم..

– عندنا؟

– نعم لا أعرف..في أوروبا …امريكا..القاهرة

– ولكننا نستطيع أن نحول جميع رغباتنا الى كأس نشربها ونثمل ألم تكتبي هذا في نصك “استلقي بقربي الليلة

سأشربك حتى الثمالة”؟؟ أم أن الشاعرات في بلادنا كما كل شيء يستمنى على الورق فقط …ويمضي نادماً ..لا شيء تندمين عليه صدقيني

– ولكن!؟

– ولكن ماذا..أهي مجرد كلمات تماماً مثلما نطلق شعاراتنا التي لا نفهم..أريدك!! هل تفهمين

– جدتي تنتظرني..سأبيت الليلة عندها..

– وهل تكون نائمة الأن؟…

– لا فرق لديها بين اليقظة والنوم…إنه ذات الحلم..دائما

– برافو …تتقنين التحايل على النوم والصحو أيضا…ماذا عن الحياة والموت…

“لم اكن اتخيل في أكثر مناماتي ضوضاءً أن تكون أول مرة لي..في هذا الديوان الذي يعج بروائح الياسمين والقهوة وجوز الطيب ودهر الطفولة البائد وصور الموتى الذين يزركشون الجدران باسمين بهلع معتقدين انهم سيمتلكون الحاضر أيضا..لم أكن أتخيل..وهذا المخلوق أيضا..من أنا وكيف أعود الى ما أنا …”

تخترق شظايا الحب ثناياي وعنقي وخاصرتي ..من كل الجهات تنطلق..وها أنا إمرأة..تستحق اللقب..

– متى تستيقظ جدتك؟

– هي لا تستيقظ  أبدا حتى وإن كانت جاحظة العينين

 صوت من الداخل يصدح:

– هيه يا وداد هل عاد قيس من الشام؟؟؟

– أسمك ليس وداد

– هل تطبق علي طرق عشاق الطرقات في سؤالهم عن الاسم قبل مغادرتهم النهائية في الفجر؟ سأعد القهوة

– لا تعدي شيئا أريدك بقربي أكثر ما يمكن …آسف لأنني فضضت عذريتك ..هل كان مؤلما…

– لا ..لم أتوقع هدية أجمل من ذلك لقاء إلقائي بعض الكلمات العقيمة…

– لم تكن عقيمة أبدا …بدليل أنها جعلتني انتصب وأحلم بك بين ذراعي ولم أتخيل أن يتحقق هذا الحلم بتلك الروعة..

– تلك؟ هل بدأت تنظر إلى الأمور عن بعد؟

– اسمعي …نحن أهل القلم …قوم منفصلون عن الآخرين لا ملة نتبعها ولا طبقة اجتماعية ولا هوايات لنا…نحن ننتمي أحدنا للآخر وكما يقول جبرا: محكومون بالقلق والخلق..لا تنسي هذا ولا تدعي الأسرة المنبوشة من ورائك ان تكسرك …أخرجي من هنا وابحثي عني…هل تسمعين أبحثي عني في الخارج …في مكان قد تشاهدين في  تجمعات مياهه الراكدة جمالك…

وداعا

5

لماذا لم يسل دمك يا فاجرة…

لا أصدق… لقد تركت الجنة التي أمامك  سافرت كل هذه الطريق وغيرت طائرات وانتظرت يومين على الجسر لأدخل نابلس النتنة لأقابل هذا الجموع القبيح والذي يقاوم الإحتلال بمؤخرته المكشوفة …

كل الهدايا

والمجوهرات

والشقة بطابقين وجاكوزي وحمام سباحة مشترك

والشاشة التفاعلية الضخمة

والحياة الناعمة المريحة

أنظري حتى شكل  المراحيض هنا..تتمنون مجرد العيش داخلها…

كل ما طلبته يا الهي عروس “بنت بنوت”..عذراء…

– انا خارج الى باريس

6

شظية أبدية لن تخرج يا حبيبتي

من كتاب: ملح كثير ، أرض أقل- راجي بطحيش- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت\عمان- 2009.