السورة 115 / ياسر السعدي

|السورة 115|

|ياسر السعدي|

1

تَحتَضِرُ الأنوارُ قَبلَ الشُروقِ

أَلفَ عامٍ و أَكثَرَ

تَموتُ الأرغِفَةُ في التَنّورِ

مِئاتٍ مِنَ السِنينِ و أكثَرَ

تَغيبُ خَلفَ ذلكَ مَلامِحُ الصَحراءِ

تَحتَ الوجوهِ الشَرقيَّةِ

تَلمَعُ البَوابَةُ الخَزَفيَّةُ

تَعُجُ بِالجَلاليبِ النُحاسيَّةِ

يُصبِحُ الرَحمُ لَوحَةً مِن نَخيلٍ

ألوانُها رِجالٌ تَلثِموا الرِمالَ الذَهَبيَّةَ

مُضرَجينَ بِالخَناجِرِ و التَأويلاتِ القَمَريَّةِ

 غَصَةٌ تُدَغدِغُ حَناجِرَهُم كُلَّ لَيلَةٍ

!مَن هوَ اللهُ في تِلكَ الأعيُنِ السوداءِ

2

؟ أهوَ المُبتَعِدُ فَوقَ السَمواتِ

هَل كانَ أمنيةَ طِفلٍ نامَ مِنَ البَردِ؟

هَل كانَ حُلُمَاً لِمِسكينٍ أرادَ جُزءَاً مِن وَعد ؟

أم شَرُّ كاهِنٍ ادّعى وَصلَهُ لِيَسرِقَ خُبزَ الغَدِ ؟

فَوَحدَهُم مَن يَركَعونَ لَن يَروا وجوهَ السَماءِ

مَن يَكتُبونَ السِحرَ يَعرِفونَ ما يَزرَعُهُ مِن وَباء

وَحدَها إراداتُ المَوتِ تَنشُرُ في الأوداجِ سُمَّ الصَحراءِ

يأسِرونَ الحَبلى يُقَيدونَها حَتّى لا تَلِدَ إلّا الغُثاءَ

يُرَبّونَ الوحُشَ بَينَ الضُلوعِ حَتّى يَسكَروا في إناءٍ

يَقطَعونَ شَرايينَ أبناءِهِم و يُمَزِقونَ الحُنجُرَةَ الغَرّاءَ .

3

تَستَيقِظُ أشباحُهُم في أكفانِ الحُروبِ

بُحوراً تَعبُرُ اللَونَ لِتَكنُسَ الدُروبَ

بَنادِقُهُم لَم تَأخُذ إلّا الطُفولَةَ لِتَخبِزَ العار

لَم تَنصُر مَظلوماً بَل كانَت سَراديبَاً لِلثَأر

لَم تُسقِط مَعبوداً بَل اغتَصَبَت إلاهاً مُنهاراً

لَم تَمسَح دَمعَةً بَل كانَت سِكينَاً لِأَنهار

و لَن يُولَدَ وَطَنٌ بَعدَ نَهبِ الأشجارِ

فَلَن يَكونوا إلّا لِدِماءِ الحَيضِ تُجار

تَحلُمُ أظافِرُهُم بِانتِهاكٍ أجسادِ النِساءِ

بِامتِلاكِ الحُلمَةِ و مُجامَعَةِ الحوريَّةِ

الخَوفُ مِنَ النارِ جامِعٌ لَهُم يَنذُرونَ لَهُ الوَلاءَ

بِالدمِ وحدَهُ يَأمَلونَ غَسلَ الأكبادِ

يُمتِعونَ الأصقاعَ بِطُقوسِ العِواءِ .

4

مَنهَجٌ أزَليٌ يَمحَقُ الوَجهَ و يُحَوِلُهُ لِسَجين

قُدورٌ عَتيقَةٌ يُطبَخُ فيها لَحمُ الجَنينِ

و جاريَةُ البغاءِ تَنتَظِرُ فَوقَ السَماءِ أعتى الرِجالِ

الَّذينَ أضرَموا الأرضَ خُبثَاً حَتّى مَلَّت مِنهُا النِعالُ

فَها هيَ السِيرَةُ الأولى ما فَتِئَت حَتّى تُقالَ

و مَعارِكُ الغُبارِ ما زالَت بَينَ قِيلٍ و قال

و اللُغَةُ العَصماءُ ما زالَت تَلِدُ أقسى الحِبالَ

لِتَصِلَ إلى قَوافِلِ الحِرمانِ حَتّى تَنالَ

ذُروَةً هَمَجيَّةً تَعِبَت مِن شَجَنِ المَقالِ .

5

شُعلَةٌ خَبَت دونَ وَداعٍ حَتّى

تَأكُلُها أذنابُها المُتَطاوِلَةُ على الدَوامِ

تُضنيها أذنابُها عِندَما تَبصِقُ الحَلالَ و الحَرامَ

بِوَحشيَّةٍ تَغزو مَتارِسَ اللَذَةِ لِتُذِلَ و تَمنَعَ

بَربَريَّةٌ هيَ تِلكَ الحَرارَةُ عَن اللحَمِ لا تُردع .

6

فَأنتَ أيُّها العَظيمُ جَلادٌ جَميلُ السَجايا

تَعيشُ في تَفاصيلِ الخُبزِ و المَرايا

تَعبَثُ في أفئِدَةِ العاجِزينَ و الحَفايا

تَعشَقُ الذَنبَ في عُيونِهِم و تُكَرِسُهُ بِالطُهرِ

سُجودُهُم و نَحيبُهُم يُحَطِمُهُم في وَثَنٍ قَذِرٍ

لِتُقَدِمَ نَفسَكَ حاكِمَاً فَذّاً على عُروشِكَ في قَصرٍ

يَجعَلُ لُعبَةَ الطُغاةِ مُمَكِنَةً المَكر

تَنسُجانِ بَعضَكُما شَبَقَاً و وِزراً

تُمسِكانِ الرِقابَ و الجُيوبَ حَتّى يَنثَني الظَهرُ

يَذُمُكَ أو يُطيعُكَ شُرَكاءٌ في الجَمرِ

بَل واحِدٌ لا يَغرَقُ مِنهُ جُزءٌ فَأنتُما جَسَدُ السِرِّ .

7

فَما أَنتَ إلّا ظِلٌّ ثَقيلٌ في سورَةِ العَصرِ

تَجُرُّ صِبيانَكَ مَن أَدمَوكَ في خُسرٍ

مارِدٌ سِكيرٌ يَخافُ الضَوءَ يَموتُ عِندَ الفَجر

فَكَفاكَ غيابَاً يا مُصَليَ الوَتَرِ

سُجِنتَ أيُّها المُصَلي في مَلَكوت

سُجِنتَ في أسفلِ القَعرِ .

8

مَهووسٌ أنتَ أيُّها العَظيمُ بِالخَطايا و التَوبَةِ

تُسكِنُهُم بَينَ مُكافَأَةٍ و عُقوبَةٍ

بَينَ نُونٍ و كافٍ و حاءٍ

فَلَما تَكون الخَطايا في الدُنيا و في آخِرَتِكَ الجَزاءُ؟

كَفاكَ وَلَهَاً اكتَفى أن يَكونَ بَينَ أفخاذٍ و أثداءٍ

أسقَطتَها مِن عَلياكَ بِتُفاحَةٍ حَمراءَ

لِتَظَلَّ بَاحِثَةً عَن جَسَدِها في مِرآةٍ

عَن بَعضٍ مِنها رُكوعَاً في الصَلاةِ

عَن روحِها بَينَ بَنانِ أولئِكَ الدُعاةِ

المُلَوَنينَ بِبُخورٍ مُمَوَجٍ بِالزُناةِ

سَقَطَت في فُصامٍ مُنذُ الوِلادَةِ

رُغمَ نَقمَتِكَ يَنمو فيها العَسَلُ و النَبيذُ .

9

تَبدَأُ مَطارِقُ الفُحولَةِ تَدُقُ في وَجنَتَيها المَساميرَ

أوتاداً لِبِناءِ القِلاعِ فَوقَ الرُؤوسِ

أشواكاً مُزهِرَةً على الجَسَدِ و العَينِ

لِتَغدوَ مَذهولَةً بِما سَرَقَت مِنها

 و ما بِها يَدوسُ

 بِكارَتَينِ خَلِقَت لَها

في الأولى يَبدَأُ الصَلبُ

في الثانيَةِ يُثمِرُ المَجدُ

فَرَجٌ وَاحِدٌ استَحَقَ المَدحَ و الذَنبَ

تُعَرى سُوأَتَها و مَن وَلِدوها بِكَلِمَة

مُباحَةٌ أرضُها بِاللَعَناتِ و السَكاكينِ

فيها أنبَنى الإثمُ و الشَيطانُ فيها مُقيمٌ

يَرفَعونَ الرَأسَ حَتّى يُمسِكونَ أُنوفَهُم بِالثيابِ

 بِالحَصى و الحِجارَةِ تُدانُ إذا ما وَقَعَ المُصابُ

الفَخرُ الَّذي لا يُبارِحُ ظِلَّهُ في أرواحٍ يباب

جَريمَةٌ هي رَجيمَةٌ

 هيَ مُتَوَحِدَةٌ بِأحرفِ الخِطابِ

 أصَروا مِثلَكَ أيُّها العَظيم

فالرَذيلَةُ مِنها و إلَيها تَكونُ

تَمكُثُ فيها خَفيَّةً و جِهِاراً

مِن ضِلعٍ مُسختٍ أو حتى من قضيب

 لِتُعاشَرَ في سَريرِ الفَضاءِ

هناكَ و هُنا لَم تَكُن إلّا جَلبَاً لِلبَلاءِ

 فَهيَ مَن أَكَلَت هَديةَ الأفعى

 تِلكَ الشَيطانَةُ حَواء .

10

صبيانُكَ حفنَةٌ مِنَ الأيامِ بِيَدِ التُراب

لِحيَةٌ جُذورُها يَرَقاناتٌ مِنَ الشِتاءِ

تَسلَخُ عَن المَغاراتِ ذَلِكَ اللحاءَ

فَبَعدَ المَوتِ سَتُحَوِلُهُم حِكاياتُكَ إلى فَراشاتٍ

وَ قَبلَ مَوتِهِم سَيُحَوِلُهُم زُهدُهُم إلى جَرادات !

يَشرَبونَ القَمحَ و النفطَ

 يَلعَقونَ الزَقّومَ

يَنثُرونَ المِلحَ

 يَنتَقِلونَ بِالدَمِّ

هُم مَن اشتَروا سُيوفَاً لِذَبحِ اللهِ

لِسَبيِّ المَوتى و حَرقِ الوَجهِ بِالنِقابِ

لِقَطعِ العُنُقِ و دَفنِ المَوءودَةِ بِالتُرابِ

مُشرِكونَ بِلا رَيبٍ يَفتَعِلونَ الخَرابَ

يُخرِجونَ تِلكَ السُيوفَ لإحقاقِ النبوءاتِ

يَلعَنونَ كُلَّ مَن يَرفُضُ الظِلَّ و السَرابَ

مَن داسَ بِقَدَمِهِ غُرورَهُم غُرورَ الذِئابِ

مَن شَرَدَ بِأظافِرِهِ نَغمَةَ الجوعِ الخَلابِ

  فَأنتُم مَن تُنَكِلونَ بِجُثَتِهِ عَلى الدَوامِ

مَن تُحيلونَ النَهارَ إلى رَملٍ دونَ شَمسٍ .

 11

انهارَت في لَحظَةٍ وَثَنيَّةٍ

كُلُّ خَطايا الطَوفانِ

التَهَبَت نُجومُ اللَيلِ بِحَماسَةٍ

تَوَهَجَت أذرُعُ القَمَرِ

انتَفَضَت أريجاً فاضَ في أثيرٍ

ألهَمَت شُموعَاً امتَلأت بِالغُروبِ

لِتُناجي أفئِدَةً تَذَرَعَت بِالرَحيلِ

حَيثُ افتَرَقَ الكَفَنُ موَشَحَاً

بِالوِلادِةِ الهَشَةِ و زَخارِفِ الحُروفِ

اغرَورَقَت عَيناها لَمَعَت في رَجاءٍ

تَاهَ بِهِ ذَلِكَ المُهَشَمُ المَفقودُ

تَعَطَرَت بِالياسَمينِ و رائِحَةِ اللهِ

بِأن تَلَقاه عِندَ الصَلاةِ كُلَّ يَومٍ

بِأَن تُلامِسَ جُزءَاً ضاعَ فيها

مَسكونَاً بِتَجاعِيدَ قَطَعَت الجفنَ

فَلَيسَ إلّا الذِكرى أيَّتُها المَنسيَّةُ هُناكَ

تَرتَديكَ كَما ارتَدَاكَ الوَهَنُ

أورِدَةُ الجَبينِ تَزهو

فَأنتَ مَن امتَلَئ بِالغارِ و لَثَمَتهُ النارُ

الّتي اكتَوَت فَوقَ الحَسرَةِ

بِأطيافٍ تُلَوِّحُ بِالسَفَرِ المَلعونِ

فَكُنتَ طِفلاً تَغسِلُهُ بَينَ الضُلوعِ

خَيالاً مُشَتَتاً لا يَشيخُ وَ لَن يَموتَ

فَما بَالُهُم يَهجِرونَ تِلكَ الثَكلى

فَما بَالهُم يُشبِعونَها بِالطينِ !

فَلا تَرتَجي بَعدَ ذَلِكَ إلّا الذُبولَ في مَجاعَة

إلّا أن تَرتَميَ قَتيلَةً تَصيحُ

مِراراً بِأسماءٍ جَديدَةٍ مُنزاحَة

تَبكي الشمسُ مَعَها حَتّى الكسوفِ

تُجمَعُ الأجِنَّةُ و تُلقى مَصلوبَةً على الخَوفِ

دَعوها تُمَشِطُ شَعرَهُ لِتُعانِقَ صِباها القَديمَ

و يَنطِقُ الحَجَرُ مَذعوراً بِكُلِّ مُغالاةٍ

حَقاً أن مَيتَكِ أيَّتُها الجَلَيلَةُ لَن يَموتَ .