المهرج ذو الظل البنفسجي عمّار المأمون

| سلسلة : مهرجو دمشق| 

أعانق جدران الغرفة الزرقاء، أَهمس بأسماء أعرفها، أتلو تراتيل من نصوص يُشك أنها استخدمت لاستحضار الجن، أَهوي برأسي على الآلة الكاتبة وأضرب خوفاً من الألم في أصابعي كلمات، “حياتي أتفه من أن تكون رواية”، ثم أَتأمل جسد الأحرف ُتَهزأ من جسدي النحيل، حيث تختلط المُفرزات والتبغ واصفرار الأصابع من هذي الكلمات التي أكتبها الآن، يكبر البياض في الورقة التي تحوي ست كلمات، يزداد البياض ويمتط الأسود ليتَهيأ للانقضاض، ينطقُ الظل بصوت الصدى “أنا المهرج ذو الظل البنفسجي”، ثم يسبح في الغرفة مستحضراً خيباتي، أقضُم بضعاً من ذكرياتي وفخذي الأيسر، ثم أفك رقبتي وأعلقها بأدبٍ احتراماً لظله البنفسجي، أتمدد موسعاً المسافات بين أشلائي المتراصة على حساب أزهار التوليب المعلقة في زوايا الحضور، أنا المفتت أمام هولك يا ظل، أعنّي على نَفسي علي أخرج حياً من هذه الذاكرة.

يكتمل تكوين المهرج، يستل الريح من تحت قدميه، ويرتدي بعضاً من غابة، ثم يفرد كفيه ليستعرض تواريخ الفصول وتقلبات مزاج الهباء، ويردد “ألم تصعد على ثرثرات الطواحين وادعيّت أنك حاملٌ للشمس ثم انهرت أمام أول شبق للريح تخترق الإسمنت”. تبتعد أضلاعي، أنتشي بكلمات أعلم أني سأقولها لاحقاً، ثم أتأمل الجدران الزرقاء تحمل من أطفالي شهوداً على خيباتي، ابتَسم، لا يهم من مات منهم، المهم أن العنادل والعناكب لم تبني أعشاشها في زوايا انتصاراتي المبهرجة بالحر والرطوبة الفائقة.

يفتح المهرج يديه باسطاً ظله فوقي لأُمسخ نورساً بدون جناحين وأعلن آخر الأناشيد في حضرة الظل الأرجواني، أُرتل:

“اجعلي عبقك يَهب نواحي أرضي المقفرة لعلي أنبعث سنابلاً تنتصب في وجه الشمس تنادي مدن الذهب المكتنزة حول جيدكِ، سألتهم بضعاً من شفاهك على الفطور وأخبئ السفلى المكتنزة لأشربها مع نبيذ عطر رقبتك، إذ من الممكن لتقاسيمي أن تحاكي تقاسيمك فأنتشي في شهوة التذوق قبل أن أخوض في معالمك السريّة، أما الكتفين، فلن أقرب، ملجأ الفاشلين والمبتذلين الباحثين عن لذة سريعة، سأستقر في الخاصرة، وهناك أُعيد بدايات الخليقة واستكشاف آدم لجسد حواء، بل وحتى خيانات ليليث، وأرتل هناك كل الأسماء التي تعلمها آدم، أنا آخر الغزاة، أنا آخر رواة الخليفة المخلوع عن عروش المعصية.. أنا الوقت إن تعرج شَبقاً على ثنايا فخذيكِ وانسل ليستوطن خُطاكِ تدوس على مروج من الأقاحين وشقائق الُنعمان التي تدّعي العفة.”

يزداد حجم المهرج وأزداد تكوراً أمام صفحاتي المدنسة بتفاهة حياتي، يتطاول ظله ويغطي الجدران لتغرق بلونه البنفسجي، لا مجال لاعترافات أخرى، أعضائي أشلاء إثر معارك وهمية مع تخيلات لا تنتهي إلا بالخيبة، يستل المهرج ضحكاته ويطبعها في ثنايا جسدي، وسومٌ من عار، وسومٌ من شفاه، وسومٌ من لذة مؤجلة لضيق النفس، أنا المدنّس بخطايا كلماتي، يتعاظم المهرج حتى يملأ الغرفة وأنا أَضيع في ظِله، أبلعُ البنفسجي، أتنفسه، استدعي قطع الشفاه التي أُخبئها للذة لكني أختنق من لذة القُبل، أَقيء رقاباً قد التهمتها وخواصر وأفخاذ علها تنقذني من البنفسجي الذي يخنق عيناي ويتسلل إلى مواطن رئتي ورغبتي، أتأمل بضع أجساد أمامي، ويهسهس صوت المهرج كحفيف سيف سيقطع رأس آخر غانية ويقول: “أنا المهرّج حامي الرغبات، وأنت المسخ الأخير المحتفل في كرنفالات الجنون، تمدّد واصنع من اختلافات المعاجم نثراً يفيض على ما تقيأته”.

يتقلص المهرّج ويعود البنفسجي للانسلال خارج أمعائي وكأن سيفاً يُشحذ عند عضلات أمعائي، يختفي البنفسجي داخل الظل، لينكمش المهرج في الصفحة البيضاء وتعود الكلمات كما كانت مع فاصلة منقوطة “حياتي أتفه من أن تكون رواية، لكن…”.

ألملم ما تقيأت من أجساد مهدورة، ثم أعيد تكوينها شعراً، أرتّل عليها لتعود مشدودة الساقين، بضّةَ الخاصرة، طرية النهد، تحمل عبق ريحٍ تهب من سهول الخِصب، وأكُثر من السجع عند الشفتين والأطراف، ثم أنتهي متأملاً ما صنعت. أختار من أحرف الأبجدية ما يلائم اسماً وأستعد للطهو، شبقاً بمرارات الغياب، مضيفاً كلمات المهرج ذو الظل البنفسجي للوصفة… “لن أنهار أمام أول شبق للإسمنت”.