لا زاوية بين جدارين في برلين

(Karl Marx Allee)

ها انا عدت لأراك بعد عام وخمسة أشهر، فلنقل، لم أعد لأراك أنت بالتحديد (مع أنني أشتاق أو مشتاق لدواع إكزوتيكية غير واضحة لتلك اللهجة الأمريكية اليهودية التي تحتلها قليلا ال-غ و ال-ر الألمانية)..لا أحباب لي، فلنقل أنني لم أبذل ذلك الجهد الكبير ليكن لي أصلا ..هنالك أشخاص تلتقيهم لليلة عابرة ضمن مؤتمر نخبوي في بلاد الشمال التي لا يكف الغراب فيها عن الثرثرة، وبعد أن يخرجون من غرفتك في الفندق بعد محاولة “تجاسد” غير مكتملة الحبكة، تغلب عليها فكرة التسلل من المؤتمر لارتكاب الخطيئة الحلوة..تتدمر حياتك فجأة، تتفكك ..هكذا دون سبب وجيه وضمن خطأ لا يحتمل في التوقيت …لا توجد علاقة عضوية أو أيونية بين تلك الليلة البلهاء وذلك الدمار الكوني الذي يأتي بعدها …ولكن ذلك بحق ما يحدث، وأنا لا أبالغ هنا ، تعاقبك الدنيا على لحظة حميمية طفولية فشلت فيها في نبش عش زوجي متكلف وتغفر لك كل ذاك العهر والدعارة وجولات الجنس الفموي بين الشجر وفي الأزقة وعلى ضفاف بحيرات وأنهار الندى..وكذلك الشرجي منه وغير المخطط له في الردهات ومقدمات السيارات الرملية المتعرقة ، وفي مواقف العربات الشاسعة الخواء وفي الفنادق بأسرّة بيضاء وبقع.

(Otto-Braun Strasse)

ها قد عدت لأراك بعد سبع عشرة شهر، فلنقل، لا أشعر بالرهبة في برلين وسأكون كاذبا لو قلت أنني أشعر بدراماتيكية ما، أشعر باللحظة الآنية..بالحاضر لا اسقاطات لعينة على المكان وملامحة..ما أشعر به ..هو لا شيء، كتلك المرأة حمراء الشعر متفجرة الأوراك التي تعبر بعربة طفلتها الشقراء هي أيضا، شطري المدينة ، لا لشيء سوى لتشترى علبة سجائر أو حشيش ربما في الدكان الكردي في الجانب الآخر من ..الحاضر…نعم  لقد تذكرت ..الآن لدي شعور ما..أشعر أن هذا الشارع العريض القبيح المشجر ببنايات سوفييتية تبعث على الرغبة بالقتل الرحيم…لن ينتهي أبدا..وبأنني لن أراك وبأنك لست حقيقيا بما فيه الكفاية كي أراك وبأنك مجرد فكرة تلامس الواقع أو إحدى هلوسات شخص أربعيني مقبل على الجنون .

حسنا، ها أنا استقل “الترام” الأصفر لمحطتين فقط من ALEXANDERPLATZ إلى HARDENBERGSTRASSE ولا أملك تذكرة، لأنني قررت أن السفر في المواصلات العامة هنا مجانية أو أنني أنتظر ماذا سيحدث لو ضبطتني الشرطة واقتادتني إلى قبو نازي معتم إلا من خيط ابيض طويل تتفتت فيها اللحظة المعطاة إلى ماض غير ممنتج بعناية؟؟

(.Friedrichshain)

أستقل الترام الأصفر…ربما البرتقالي لا أذكر..ما خفة الكائن هذه؟ ليس من المفروض أن أشعر كذلك لو كنت في مترو باريس أو تيوب لندن…هنالك ما يدفع اللحظة أو اللقاء ويطليهما بمزيج ..بسائل هو خليط من التاريخ والصدأ والجغرافيا والقصص المتخيلة والفعلية وما مر على المكان ومن مر عليه وكل تلك الاسقاطات اللعينة والمبتذلة أحيانا..كيف يمكن أن يصاغ تاريخا أو حتى “حلا نهائيا” في هكذا شارع …في مدن أوروبا أحمّل بعض اللقاءات ما لا تحتمل وذلك بفعل الولع بالتراجيديات المجترة  ..وهذا ما لا يحدث هنا…في مقترق قريب تبدأ بيوت وعمارات البوهاوس بالظهور…عمارة شبه مهدمة مع الكثير من الجرافيتي والملصقات الملونة وبناية قديمة مرممة، حوانيت زهور صغيرة ودكاكين ملابس مستعملة بتكلف شمال أوروبي واضح، مقاهي كثيرة  ومطاعم أندونيسية وأخيرا عرفت أين اختبأت كل هذه الكلاب الصغيرة الميكروسكوبية…يكتسب اللقاء المفترض القليل من الدراماتيكية فجأة، ببساطة شديدة أشعر بذلك في جسدي في إزاحات معينة تحدث فيه وضمنه وداخل حدوده المرسومة وتلك الوهمية ، تري ما الذي سيحدث؟ هل سنأخذ زقاقا معتما لنتبادل فيه الشهوة المحبوسة؟ أم أن تلك خيالات داعرة لا تخص سواي؟

 (Prenzlauer Berg)

كيف يمكن أن أسرق هذا الوجه الطيب من هنا وأن أدفعه نحو جدار معتم في زقاق شرق متوسطي كي نلعق بعضنا البعض؟…ها هو يعانق ابنه المتبنى المراهق المغادر إلى درس الكمنجات بعد أن جالس أباه في المقهى ريثما أحضر..

باي داد …نايس تو ميت يو أونكل!

(آه..نسيت ان هذا الجيل صار يناديني أونكل..سأشنق نفسي بعد انقضاء هذه المهمة)

عيونه مختلفة لا شيء جنسي فيها، لا شيء ماكر وثعلبي، يحدثني عن أبحاثه وعن حياته في برلين وعن شوقة أحيانا للولايات المتحدة ولنيويورك ورفضه زيارة فلسطين بسبب الاحتلال…تنطفئ رويدا رويدا جمرة مكيدتي..تخبو…يبدو جسده ضئيلا..منكمشا منضبطا وملموما على نفسه بشكل مرتب وملفت…

يرافقني إلى محطة الترام الأولى ..ثم نقرر أن نمضي إلى التي  بعدها، أقرب ما يمكن من غرفة فندقي الجاهزة لأي منعطف في الأحداث..أبعد ما يمكن عن زاوية متهالكة برائحة البول يُمارَس فيها عادة الجنس الفموي العابر بين الغرباء!

أقول له فجأة: أنت رجل طيب ..جيد …أريد أن أعرفك دائما!

نفترق…

(HACKESCHER MARKT(

تبدو برلين أجمل من أي وقت مضى..وخاصة ذاك التداخل بين المنهار وبين ما يحاول بناء نفسه

(Flughäfen Schönfeld)

بعد أن تغادر غرفة الفندق الفخمة أو الحقيرة أو البيت الغريب لأول مرة قد تعتقد أنك ستتفتت إلى شظايا بفعل الخطيئة التي ارتكبتها والرذيلة التي وقعت في براثنها وأن جسدك أصبح قذرا وملوثا يحتاج إلى حاويات وحاويات من المطهرات، هذا ما ستشعره وفق تصور البرجوازيين الوسطيين على نظمهم…ولكن ما ستشعر به “بحق” هو ألم لذيذ في البطن..ودقة قلب وهشاشة تحمل عبقا منعشا..وبأنك تريد المزيد والمزيد من هذا..مع اشخاص مختلفين..وفي فنادق عديدة ومتناثرة في مدن العالم وأسقاع الأرض..

وبأنك تريد المزيد والمزيد من كل هذا…..