الوحدة / راجي بطحيش

أغفو قليلا في عصرونة جمعة ربيعية من تلك التي لا تتوقف عن ذرف بعض من دموع الاشتياق، استيقظ فجأة، لا لشيء هام،فنشرة الأخبار تعيد إنتاج ذاتها كل ساعة، وثمة عداد جاف لمن قتلوا حتى رائحة الموت تأبى أن تفوح منه. أستيقظ أكثر. فلا أجد شيئا قد تبدل. حتى أن القطط الثلاث الشقراوات (لماذا ندعى دائما بعند أن جميع القطط من الإناث). لا زالت تجثم على صدري وكأنها تدلكه في ناد صحي سئ السمعة، على البطانية الناعمة “الكيتش” عى شكل القطط نفسها. أنتصب كالحجر، أشعر بالعجز اللذيذ. لن استمني الآن، لن أسحب بطاقة الحل الأسهل الآن.

ولكن حل لماذا؟ لما.

فأنا لوحدي، أنهيت أبحاثي الأكاديمية، لا ملفات للترجمة لنهاية الأسبوع هذا، لم أخطط للخروج

وكما يقول سليم بركات في كتابه الرائع “هياج الأوز”. لا أير.. لا رجل..لا ترجمة

 

في هذه الحالة من الخواء اللذيذ. الرطب اتجه للأفلام القديمة بالأبيض والأسود، وتلك فرصة ذهبية لمتابعة عدم متابعة أحدها. فيلم “ثرثرة فوق النيل” وتلك الجملة العبقرية “الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا”، إنه ذلك الشعور الدائم بأنك متهم بشيء مرتبط بانتهاك حقوق من هو أضعف منك، مما يجعلك تترقب طيلة الوقت اللحظة التي سيقرع فيها الباب بعنف، لينتظرك العقاب من وراء الحاجز الذي يأوي عصاراتك، حتى لو كانت منتنة، عقاب على جرم قد لا تظن أنك ارتكبته مرة.

“الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا. “

و

” الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا. “

****

أنظر إلى مائدة “ايكيا” المربعة الصغيرة الحجم بإعجاب تلك التي يمكنها أن تحوي قمامة العالم كلها، ينبع إعجابي من كوني استطعت أن أشكل من تفاصيل أيامي المتتابعة وغير المتشابهة بليلها ونهارها، ثم نهارها وليلها. ليل- نهار- ليل-نهار- ليل-نهار، منشأة فنية موحية أ إلى هذه الدرجة تهافتت الأيام بانسيابية متنهاية لترتطم على أقدام هذه المائدة التي صارت مرتعا لكل ما لا مكان له في خزانة، لا خزانات في مربع الوحدة. كل حاجياتي في الخارج، أعلقها هنا وهنا وهناك، كما أنها تقع منى على هذه السجادة، وتلك البلاطة العادية وهذه العتبة، ولكنني أنسى التقاطها من هنا وهنا وهناك.

ولاعة: هنالك عدة ولاعات. صفراء. خضراء. تعمل. عطبة. على شكل قنفد. على شكل امرأة صدرها عار. ولاعة واحدة فقط اشتريتها..أما البقية فقد أخذتها من أناس لا أعرف كيف أصنفهم ضمن أيامي المندفعة نحو سيقان هذه المائدة كما قلت.. كل ولاعات الدنيا لدي..كل ولاعات الدنيا وطني الذي لن أفرط فيه هذه المرة على الأقل.

صورة عائلية : لقد نسيت أن أعيد هذه الصورة العائلية لمكانها، بعد ان أخرجتها من وكرها ذات ليلة عاصفة عندما كنت شبه متأكد أنني سأموت غرقا ليلتها، حيث سينهار علي الجبل الذي بني عليه هذا البيت بعد أن تخنقه المياه، لذا كان علي أن أخرج هذه الصورة واتأملها قليلا كي أحيط بالدراما من شتى جوانبها . فهؤلاء إما ماتوا وإما سافروا وإما جنوا وإما تاهوا وهم في طريقهم إلى دير يبيع زيوت خلاص عند قمة الجبل. اتضح بعدها انه ابعد بكثير مما كانوا يظنون. أتامل صورة من تركوني هنا وذهبوا، ينتفض قلبي أو كما يقولون يرفرف قلبي قبل موتي المفترض المنتظر، أشعر بوحشة باردة، ثم أنني لم أمت. بل نسيت أمر الصورة.

ميزان حرارة : من سيكتشف الجثة ان ابتلعتني الحرارة داخل سراديب العدم.

فاتورة: فاتورة واجبة السداد لضرائب أملاك وما شابه منذ ستين عاما وأكثر بإسم أبي رحمة الله عليه.  فليسددها هو.

Usb قديم: لن أجرجر نصوصي بعد الآن من مكان لأخر ومن مدينة كبرى لمدينة أصغر، فلتصدأ هذه القطعة البلاستيكية التافهة، لن أجرجر بعد الآن حكاياتي وحيرتي والتباس ملفاتي والعار في ماضي أرقي. من مكان إلى مكان آخر.. (ولكن البلاستيك لا يصدأ بل ينصهر).

Usb جديد:سيارتي الواقفة في موقف رحب لا ينتهي، لا حدود له، هو موقف انتظار خارج حوانيت كبيرة عملاقة هي الاخرى لا تنتهي، يمكنني شراء كل شيء فكل شيء يدعوني لذلك، اخرج من حانوت التجهيزات البيتية ومعي قطعة بلاستيكية جديدة لتخزين الذاكرة، بعد أن أقنعتني عاملة الصندوق الروسية بان استخرج بطاقة لنادي الزبائن لأدلل ضمن مزاياها كافة أفراد العائلة. أبي. أمي. أزواجي وزوجاتي. قوافل بناتي وأبنائي..كلابي وقططي..عظام جداتي وأجداد جداتي..جسدي. تحول هذه الأماكن الفرد إلى مادة ما. هلامية..غير مرئية. اخرج من حانوت التجهيزات البيتية غير مرئي. أدخل سيارتي الواقفة في باحة ليلية لا حدود لها، لا ترتطم فيها أي من أيامي المتدافعة. يمكنني أن أدخل السيارة في هذه الحالة وأن أجلس فيها هكذا، دون أن ننطلق، ربع ساعة، أربعين دقيقة، ساعة، ساعتين أو أكثر. أدوّر المذياع.

“الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا. “

و

” الفلاحة ماتت ولازم نسلم نفسنا. “