وقف إطلاق نار \ راجي بطحيش

 

وقف إطلاق للنار، أو تهدئة ..لا يهم..المهم انه سيتوقف قتل الأطفال وأنه ويا للرجاء النرجسي! سيتوقف الانهيار البطيء لأعصابي …انهيار يبدو كالسم الذي يدخل الجسد بكبسولة محكمة الغلق ولكنها تطلق السم ببطء، بكميات محسوبة بدقة بحيث تتراكم نسب السم في الدم بشكل تصاعدي وفق دالة أحادية المجهول مرفوعة على القوة إثنان، لدي شعور أنني أقترب من نقطة الإشباع التي لا يتغير فيها مستوى السم بعد الآن وإلى الأبد، فأنا ربما لن أموت من السم قد أموت من الملل منه  ولكنني خلافا لذلك قد أعيش بدم مسموم لا تتناقص كمياته ولا تزيد ، بل ربما قد أبحث عن طريقة مثلى لحقن دمي داخل كائن آخر يعاني من فرط السكينة وعذاباتها!

وقف إطلاق للنار، أو تهدئة ..لا يهم...المهم أنني سأعود لممارسة مهنة التدريس في الجامعة تلك المهنة التي كنت أحلم بها وأعول عليها وكأنها ستكون ملاذي الأخير قبل …لا أعرف ماذا …تماشيا مع المثل الذي بات شعبيا لسفيرتنا إلى العزلة : “إيه في أمل”…، ولكن بشائر المهنة الموعودة تآكلت واجهضت فرحتها قبل أن تولد بسبب منع ما يعرف بالجبهة الداخلية في اسرائيل بعقد تجمعات تدريسية في منطقة الجنوب ومنها مدينة بئر السبع التي ألقى بي الثمن الذي يتوجب علي دفعه  للبدء في مزاولة المهنة ، فيها وفي فصل الصيف الدراسي وفي عز حر الصحراء التي لا أعرف عنها شيئا سوى أنها عبارة عن الطريق إلى مصر عندما كنا نسافر لهناك بالحافلة عبر معبر رفح…حتى أنني اشتريت لنفسي هدية مكافأة على البدء في تحقيق الحلم ، حيث ضاعت الهدية مع الحقيبة التي تحتويها في الطريق من لندن عبر روما…

وقف إطلاق للنار، أو تهدئة ..لا يهم...استيقظ في الخامسة والنصف من صباح الأحد ، سأحاول الذهاب والتدريس رغم كل شيء .. لن اتنازل..أتوجه الى محطة  قطارات شاطىء الكرمل  عند مداخل حيفا الجنوبية اقتني تذكرة مع مكان جلوس محجوز مسبقا، كي لا يتم هرسي في زحمة الأحد صباحا وكي لا احتك “بهم” كثيرا ، حيث لم اختلط باليومي الإسرائيلي منذ مدة ، مذ تركت تل ابيب أو ربما مذ انهيت الدراسة أو مذ دخلت كبسولة حيفا- الناصرة العربية وأضعت المفتاح. كيف يقولون أنه في  الأحد صباحا يكون القطار مزدحما بالجنود العائدين إلى ثكناتهم والمحملين برشاشات “الأوزي” الإسرائيلية الشهيرة حتى انك تشعر بأن دماغك سيتفجر ويطير متمردا على جمجمتك لمجرد فكرة قرب فوهة الرشاش من رأسك في زحمة القطار…الجميع على رصيف جنوب حيفا بألبسة مدنية وحقائب دبلوماسية أو حقائب سفر مع أن هذا القطار لا يتوقف في مطار اللد، الوحيدون بملابس رسمية هم عمال القطار أنفسهم، وبعض الشرطيات اللواتي يمضغن العلكة بشهوانية غير مدركة لفداحة الساعة واليوم وبعد الطريق، هل صعد الجنود إلى القطار في محطات أكثر شمالية في نهريا وعكا والكريوت مثلا؟

وقف إطلاق للنار، أو تهدئة ..لا يهم…ما يهم أن القاطرة التي أجلس فيها شبه فارغة ، التكييف يعمل بروعة ونجاعة لا متناهية، هنالك واي-فاي ممتاز، أعمل ، اقرأ، اسمع موسيقى هجينة وجميلة في ذات الوقت، ماذا ينقصني..ماذا؟…وكأنني أعمل في باريس وأسكن في بروكسل وبالعكس على سبيل المثال …ثم أن خيالي خصب يمكن أن يزج بي في أي بقعة أريد…اتوقف عن قراءة ملخص سأدّرسه اليوم حول مصطلح ال- postmemory  أو “ذاكرة الذاكرة” أنظر عبر النافذة…يا إلهي؟ من أين اتت كل هذه الرمال، ما كل هذه الصحراء…

يتوقف القطار في محطة بئر السبع المركزية، تفتح الأبواب، اخرج من القاطرة الأخيرة لجهة الشمال ،لهيب الشمس الذي يلتهمني خارجا يفتت احتمالات باريس أو بروكسل أو الإثنتين معا، اتجه جنوبا للخروج من المحطة، ارفع نظري قليلا، مئات الجنود ممن يحملون الرشاشات يكونون بساطا بلون الأخضر الزيتي أمامي.  اللاشيء من ورائي، سكك القطار على يساري والمخرج من المحطة بعيد، بعيد جدا، يخلق الجنود المندفعين نحو المعركة عنق زجاجة أمام بوابات ختم التذاكر، أغمض عيوني ثم أفتحها… اتقدم قليلا ، واغمضها مرة أخرى، ارتطم بجزء بشري لين وصلب في ذات الوقت، إنها مؤخرة الجندي الطويل الفاتن التي تصل قريبا من مستوى نظري، أغمض عيني طويلا، أحلق، أفكر في اللاامسافة بين شق مؤخرته وقماش  الخاكي وهل يملك الشعر هناك، هل انتصب وهو نائم في القطار؟  أفتحهما وقد تقدمت القافلة قليلا نحو العبث: مع هذا مستحيل أن أدخل مرحاض هذا المكان …مستحيل!!!